[ أطفال في حديقة بتعز ]
هذه الحديقة المكتضة بالأطفال والنساء، وبأرجوحتها المحلقة في الفضاء بالعصافير على بساط المرح ليست في مدينة "دبي" الإماراتية كما قد يتوهم البعض.
هذه الصورة مترعة بالمرح الباذح لا تجسد فائض سكينة ورفاهية وثراء مدينة عصرية الحياة كما يفترض، لكنها ويا للمفارقة المدهشة من قلب مدينة "تعز" اليمنية الغارقة خلف أسوار حصار الحرب المدمرة، والخراب الرافل منذ ست سنوات، والمكشوفة لسماء تمطر قذائف موت لا يعرف القحط، ومن وسط حي "حوض الأشراف "أكثر أحياء المدينة دماراً بفعل الحرب.
فريق "الموقع بوست" زار حديقة "جاردن ستي" حيث يخوض أطفال مدينة تعز معركة الحياة والموت ويواجهون القذائف بابتسامة عنيدة لا تخلو من الدماء والضحايا.
متنفس وحيد
يحتشد مئات الأطفال وعشرات العائلات من أبناء مدينة تعز في حديقة "جاردن ستي" يوميا وخصوصاً أوقات العصر وأيام العطل الأسبوعية، في إصرار لا يعرف الكلل، لرسم صورة حياة لمدينة يعزف الدمار والموت فيها لحناً جنائزياً موحشاً.
منذ مطلع أبريل /نيسان 2015 وحتى أواخر عام 2017، كانت هذه الحديقة والحي المحيط بها جزءًا من لوحة الدمار ومسرحاً لمعارك ضارية، كما يقول مدير الحديقة "نبيل الجعفري لـ"الموقع بوست"وهي المنشأة الوحيدة المدمرة التي أعيد إعمارها في الحي.
فالحديقة تقع في المنطقة الشرقية ومحاطة بأهداف عسكرية وأمنية، وتأثرت من الحرب وتعرضت الألعاب والمباني فيها لدمار شبه كلي، فأعيد ترميمها وصيانتها من قبل مستثمر الحديقة على حسابه الشخصي، كونها المتنفس الوحيد لسكان مدينة مخنوقة.
مشاعر الخوف والقلق من تعرض الحديقة الواقعة في الجهة الشرقية من المدينة، وبالقرب من جبهة القتال للقصف في أي لحظة كانت بادية في حديث "نبيل" فلا مانع من ذلك غير إرادة الله كما عبر لـ"الموقع بوست"، مضيفاً أنه لا خيار لهؤلاء الأطفال غير التشبث بالحياة، والبحث عن مكان ينسيهم مآسي الحرب، حتى لو كان ذلك المكان في متناول قذائف الموت.
مواجهة الحرب بالمرح
روح مدينة "تعز" التي لا تموت تجسدت في سعادة الطفل "أيهم محمد" (10 أعوام) الذي هرول إلى داخل الحديقة برغبة كبيرة في اللعب والمرح، فهو كما قال لـ"الموقع بوست" سيلعب اليوم كثيراً، وسيركب السفينة، وسيشتري البالونات الملونة.
أيهم الذي حضر رفقة أفراد أسرته، لم يلق بالاً لأصوات الرصاص والاشتباكات المسموعة بوضوح يضاهي أصوات المرح الصاخب المنبعث من أفواه عشرات الأطفال والعائلات الذين يملؤون الحديقة.
مقاومة مظاهر الموت ومشاعر الخوف، والتشبث بالحياة، والبحث عن فرصة لنسيان الوجع هو الدافع الأبرز لأطفال مدينة تعز للقدوم إلى حديقة "جاردن ستي" كما عبرت عن ذلك لمياء بديع (35عاما) لـ"الموقع بوست"، فتعز مدينة السلام والحب والتعايش، حسب تعبيرها.
جرائم مروعة بحق الطفولة
بحسب ما وثقه تقرير التحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان الصادر في 24 أغسطس /آب المنصرم، فقد بلغ عدد الأطفال الذين قتلوا بفعل القصف العشوائي لأحياء مدينة تعز من بداية الحرب في مارس/أذار 2015 (366طفلا)، ومع نشر "الموقع بوست" لهذا التقرير يكون الرقم قد تجاوز الـ(370) أحدهم الطفل "عمران ناصر" ذو العشرة أعوام الذي مزقت جسده، ووالده الكابتن "ناصر الريمي" قذيفة هاون، في صبيحة 12 ديسمبر الماضي أثناء ما كانا يمارسان تدريبهما الرياضي اليومي في ملعب النادي الأهلي المجاور لحديقة جاردن سيتي.
وفي السياق نفسه، فقد بلغ عدد النساء اللواتي سقطن ضحية القصف العشوائي في مدينة تعز خلال سنوات الحرب الست، بحسب تقرير الشبكة اليمنية للحقوق والحريات الصادر في (25 أكتوبر /تشرين أول ) الماضي، 1802 امرأة وهو رقم يوضح بشاعة الجريمة، فمؤكد أن أولئك الضحايا أطفالا حرموا من حنان ورعاية أمهات ذنبهن الوحيد أنهن من نساء تعز.
معركة الحياة
من بين صراخ المرح المتصاعد من أفواه عشرات الأطفال في حديقة "جاردن ستي" كنافذة وحيدة مفتوحة على الأمل والحياة في مدينة تحاصرها متارس الموت، يمكن سماع صرخة استغاثة مدوية من شفاه أطفال ملوا البكاء، ويبحثون عن مكان آمن لممارسة اللعب، تلك الاستغاثة لم تصل بعد إلى ضمير طرفي القتال اللذين يدركان مسبقاً أن استهداف الأطفال والمدنيين والمنشآت المدنية تعد جرائم حرب مجرمة في كل القوانين بما فيها قوانين الحرب، لكنه كما يبدو أن تلك الاستغاثة لن يكون لها أي صدى طالما بقي مرتكبو الجرائم بحق أطفال تعز في مأمن من العقاب.