فيصل علي

فيصل علي

إعلامي وأكاديمي يمني.

كل الكتابات
يوم مشمس في كوالالمبور
الاربعاء, 18 يوليو, 2018 - 09:32 صباحاً

هذه المدينة بلا أرصفة ..بلا أزقة .. بلا مشردين.. بلا موسيقى، الحياة فيها أشبه بعذاب القبر المختلق ، الفقراء الذين يمشون المسافات الطويلة في كل مدن الدنيا لا طرق يمرون فيها هنا، فقط الطرق السريعة وسكك القطارات و فضاء شبه مغلق على الحمام و عصافير الغابات.
 
بارات الليل و زوايا جماعات الجنس الثالث و أوكار المساج و غرف عاهرات الخمسة نجوم كلها لا تعني أن حياة طبيعية في هذه المدينة ، كل شيء مختلف مقرف و دنيء ، لا شيء طبيعي سوى الورل، و السنجاب، و بعض الصفصاف، و بعوض لا يتوقف عن مص الدم.
 
و على عادتهم يهرب الناس هنا إلى الأطراف والكمبونج -القرى- بحثاً عن وميض نجمة عالقة في السماء ، عن مداعبة هواء عذب قادم من بعيد، عن رؤية قروي يبيع الموز المقلي بالزيت، و رائحة بخور يتسلل من معبد بوذا، و صوت درويش ينادي حي على الصلاة.
 
لا حياة في المدن الصماء التي لا تسمع متعجرف قد قرأ عشرة ألاف كتاب في الحب و الشعر و الفلسفة و تناسخ الأرواح و الأذكار و السياسة و شموس المعارف و علوم البحار و صناعة الاشرعة.. حقاً هذه الأبراج المرتفعة لا تؤمن بالشعر كما تؤمن بشفرة مستر كارد.
 
لا روائح زكية صادرة عن مطابخ هذه المدينة ، و بشاعة رائحة المطبخ الصيني تطردك كما تفعل رائحة الديزل بالبعوض ، أغلقوا النوافذ فجارتنا ذات الشعر المتسلسل والسراويل الأقصر في العالم بدأت تمارس هوايتها في قلي السحالي المجففة مع الوزف- سمك مجفف حجمه صغير - إنها تصنع السم لنا و الترياق لأولادها الثلاثة، إنها تعد طبخة "الزاحوط الماحوط" الموجودة في كتاب الكاهنة الشريرة.
 
الضجيج و أضواء السيارات و عوادم الغاز هي مجمل مكونات اللوحة العالقة على جدار قديم في هذه المدينة الصماء، و لمشاهدتها بكامل حزنها سيكون الأنسب أن يكون توقيت زيارتها عند تعامد الشمس في كبد السماء مسلطة اشعتها على فقراء الهنود و العمال البنجالة و على طرقها الملتوية التي لا تنتهي أبداً.
 
هنا لا أحد يقول الشعر، لكن الجميع يتناولون الأكل المحلى بالسكر حتى "الغنمي" يضاف إليه "الجولا جولا" ، يذكرني هذا الطعم بفتة الخبز بالسمن و الحليب و السكر عندما كنت طفلا "ملسماً" لا أحب الأكل و أمي تحليه بالسكر كي استسيغه، أخبرتها مراراً أنه غير شهي و لكنها كانت تحسبني أمارس الدلع كما عودتني جدتي.
 
يا محطة الترانزيت الأطول في العالم يشتاقك كل من غادرك، لكونك تمنحي القادم شيئا لا يوصف بالإمكان تقريبه لنوع من الترحاب الغريب كقولهم" ارحبي يا جنازة"، تظلين عالقة في الذاكرة لا يحتويك نص و لا يصفك كتاب و لا تسعك رواية ، يا متناقضة المعاني و موسمية الغزل و لحظية المطر.
 
أعلم أنك لست لي فلست قرطبة بن أبي عامر، و لا رائحة فيك من أرض المعافر ، أحببتك نعم، لكنه كحب عابر لتفاصيل امرأة جميلة تمر من شارع بوكيت بنتانج -العرب - و تلتفت خلفها خشية من لصوص الحقائب.
 
شمسك المجنونة حنونة في الصباح، لعينة في الضحى، و قاتلة عند المنتصف، و أمطارك مباغتة كالقدر، أنهارك على قدر هدوئها إلا أنها مزيفة، لا نهر بدون عشاق يتناولون اللب و عصير القصب و يتبادلون القبل، النهر كثير الأسماك عديم الأزهار و القصائد ليس سوى صورة مرسومة مهما بدت ثلاثية الأبعاد واضحة المعالم إلا أنها عديمة الرائحة.
 
مقاهيك الأنيقة مزعجة، و كراسيها قصيرة السيقان ولم تصنع لواحد مثلي أتى من بلاد قوم عاد الذين أضاعوا إرم فتاهوا في كل بلدان العالم، كل ابتسامات نادلات المقاهي الجميلات المرحبات بالقادمين لا تساوي لحظة هدوء يبحث عنها صعلوك متصوف يجول في الأرجاء منذ عقد من الزمان.
 
باعة الفاكهة غير جديرين بإنتباه الكواعب من النساء، لا يجيدون التعامل مع البرتقال و التفاح المستورد، كما لا يجيدون الطبطبة على القرع و البطيخ ، يبيعون الفاكهة على طريقة باعة أدوات الكهرباء كل شيء يباع بسعره المحدد سلفاً و لا "مراجلة" و لا أخذ ورد، متعة البيع و الشراء غير متوفرة في هذه الأسواق كما أن الفواكه الطرية بلا رائحة، ما عدى الدريان ملك الفاكهة و الذي تشبه رائحته محركات الديزل.
 
لكنني أحببت فيك المساجد، و السماع لكل أذكار تعقب الصلوات الخمس، يتجلى فيك منهج أهل الروح بشدة، لابد أن صوفياً عظيماً قد خط ملامح عشقه هنا ذات زمن، أنت ككل مدن الحرير الممتدة من بيزنطة مروراً بعدن حتى بكين عرفت الوحي في العقد الثاني للهجرة، ولذا إيمانك له طعم لم تغيره الماديات و الأبراج العملاقة، يا حضرات أولياء الله من الجن ربما أجد إجابات عندكم عن روحانيات مساجد نيجارا في الوسط و الحسنة و الإصلاح على الأطراف، و في أغلب الحارات التي سكنت بالقرب منها.
 
أعذريني يا كوالالمبور فأنا لا أجيد التفريق بينك وبين سيلانجور، اعذري هذا القروي القادم من أطراف إرم و أحياء برك الغماد في المعافر الذي لا يجيد معرفة الاتجاهات الأربعة إذا لم يمشي على أقدامه في كل الجهات، و وسائل النقل شوشت خارطته.
 
أعدك يا قلب العالم أن أسجل كلما شاهدته في فصول يومك المشمس لاحقاً يا كوالالمبور و ما هذا الا بعضاً من سرد لم ينته، و لن اتحامل عليك كما في هذا النص الذي جاء و أنا أنظر بعين الغريب الممتلئ بالحزن.

* من حائط الكاتب على فيسبوك 

التعليقات