يقول المثل العربي " العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، وهذا بالتأكيد كناية عن أهمية التعليم في سن مبكرة، حيث تكون القابلية للحفظ والفهم والتلقي سريعة، والاحتفاظ بالمعلومات يظل خالدا راسخا في الذاكرة.
هذا بالنسبة للعملية التعليمية نفسها، فماذا عن الناقش؟ وهو هنا المدرس الذي ينقش تلك المعلومات في ذهن الطالب، ويكون سببا في رسوخها وفق ما يصوره المثل "كالنقش في الحجر".
ومن منا اليوم لا يتذكر أول المعلمين الذين تلقى على أيديهم التعليم في الصفوف الأولى من مرحلته الدراسية، بل إن أولئك المعلمين تبقى صورهم وحركتهم محفورة في الذاكرة أكثر من غيرهم في باقي المراحل التعليمية، فهم الوجوه الأولى التي تستقبل الطالب في المدرسة، وتلقنه الحرف الأول.
من أولئك المدرسين الذين تلقيتُ على يدهم التعليم الأساس في اليمن مدرس سوداني إسمه "هاشم محمد أحمد يوسف"، واستمر يعمل في التدريس لمدة أربع سنوات، وبدأ العملية التعليمية معنا من الصف الأول حتى الرابع، وكان العام الأخير له 1990م عندما اندلعت حرب الخليج الثانية.
اليوم إذا سألت أي شخص في المكان الذي عمل فيه عن الاستاذ "هاشم" فستجد الارتياح والتحسر في كلام الناس، الارتياح من الأداء الذي كان يقدمه هذا المعلم، والتأثير الذي خلقه في الطلاب وأسرهم والمنطقة عموما، والحسرة على الوضع الذي وصلت إليه العملية التعليمية اليوم في تلك المنطقة، وعموم اليمن.
فلم يقتصر أداؤه على الجانب التعليمي مع الطلاب، والوسائل التي كان يبتكرها من حين لآخر، بل ارتبط بعلاقات واسعة مع أولياء الأمور، والشخصيات الاجتماعية، واستطاع خلق انضباط تعليمي لدى الطلاب، ونجح في تحبيب الناس لتدفع بأبنائها نحو المدرسة، وشعر الناس بوجود فارق ملحوظ في مستوى تحصيل أبنائهم الدراسي.
بالطبع الذاكرة مليئة بالأحداث والمواقف العديدة في حياة ذلك المعلم الذي لم ترى المدرسة التي عمل فيها والمنطقة، معلما عربيا أو يمنيا استطاع أن يملئ الفراغ الذي خلفه، ومن تلك المواقف التي أذكرها موقفين، الأول تعامله مع أي طالب يتعرض للضرب، وينفجر بالبكاء ولا يتوقف، فقد كان يحضر له علبة حليب (نيدو) فارغة ويطالبه بأن يبكي حتى يملأها بالدموع، فيتوقف الطالب على الفور عن البكاء.
أما القصة الثانية، فقد كان معنا في الصف الرابع، طالب مهمل لا يؤدي واجباته المنزلية، رغم تأنيبه ومحاولة تشجيعه أيضا، ومعاقبته أيضا بالوقوف في مقدمة الصف، لحثه على عدم إهمال واجباته المدرسية، وكل ذلك لم يجدي معه نفعا.
لجأ الأستاذ "هاشم" إلى حيلة كانت مفاجأة لنا وللطالب نفسه في وقتها، فأثناء فترة الراحة دس الأستاذ مجموعة من الأحجار متوسطة الحجم (حصوات) في حقيبة الطالب، وغادر الطالب إلى منزله، وعندما عاد في اليوم التالي، قام الأستاذ بتفتيش الحقيبة، ووجد أن تلك الأحجار لازالت باقية داخلها، وكان ذلك كافيا ليعلم أن الطالب مهمل، ولا يفتح حقيبته لمراجعة دروسه في المنزل، وأنه يحملها من المنزل إلى المدرسة والعكس، وعندما أخرج الحصوات من الحقيبة، ونحن نراقبه بدهشة، إلتفت نحو الصف وقال بغضب واستنكار: "كالحمار يحمل أسفارا".
لازلت أتذكر كلامه في العام الأخير له، وهو يحدثنا كتلاميذ في الصف بأنه سيزور اليمن بعد عشرين عاما، ليرى ماذا سيفعل الواحد منا في حياته مستقبلا، وتمنى الأمنيات بمزيج من الجد والفكاهة للطلاب وهو يخاطب كل طالب "أتمنى أن أراك…"، وفقا للقدرات التي كان يلحظها في كل طالب.
وحتى اليوم يكون قد مر على كلامه هذا ما يقارب ثمانية وعشرين عاما، حصلت فيها متغيرات وتقلبات عديدة، وكثير من أولئك الطلاب الذين تلقوا تعليمهم على يد الأستاذ "هاشم" باتوا اليوم في مواقع عديدة، صحفيين، ومعلمين، وأطباء، ومنهم أيضا، من تعثر به الحظ، ولم يكمل تعليمه، ومنهم أيضاً من تخلى عن التعليم ولجأ للاغتراب، لكن لا أحد منهم ينسى التأثير الكبير، والمجهود التربوي، الذي بذله هذا المعلم.
ومنذ اليوم الأول الذي وصلت فيه السودان، حاولت الوصول إلى هذا المدرس لألتقيه مجددا، وطرقت العديد من الأبواب للوصول إليه، والذي استطعت معرفته أنه لايزال حياً يرزق، ويعيش في منطقة خارج الخرطوم إسمها "القطينة".
بالطبع لم يكن الأستاذ "هاشم" هو المعلم السوداني الوحيد الذي عمل في اليمن خلال فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حيث كانت اليمن لاتزال حينها حديثة عهد بالجمهورية، ولديها نقص كبير في المعلمين المحليين، وتوزع هؤلاء المدرسين القادمين من السودان على مختلف الأرض اليمنية، خصوصا في الشطر الشمالي من اليمن سابقا.
لقد ترك هؤلاء انطباعا لا يمكن محوه في أذهان اليمنيين، وتخرجت على أيديهم أجيال عديدة، باتت اليوم تتوزع على العديد من المواقع الوظيفية، وكانت تلك الفترة هي أنقى وأبهى سنوات التعليم في اليمن، وللأسف لم يحافظ الجيل الجديد من المعلمين اليمنيين على تلك الأسس التي أرساها المدرسون السودانيون وهم يبنون مداميك التعليم، ويضعون لبناته الأولى في اليمن، وخلف من بعدهم معلمين أضاعوا التعليم، وأفقدوه قيمته، وألقوا بالجيل الحالي من الطلاب إلى غياهب الجهل مجددا.
*نقلا عن صحيفة مصادر السودانية.