جنوب اليمن .. جنوب السودان
الثلاثاء, 21 أغسطس, 2018 - 09:41 مساءً

ظلت القيادات المعتقة في جنوب السودان تطالب بالانفصال عن دولة السودان، وفتحت آذانها لكل القوى الخارجية التي تتربص بالسودان، ومدتها تلك القوى بالدعم والسلاح لتحقيق إنفصالها نكاية بالسودان.

النتيجة كانت تواطؤ قوى دولية عديدة بما فيها دول عربية، في دفع جنوب السودان نحو الانفصال تحت مبررات واهية، و مغالطات واضحة، بدوافع العرقية، والهوية، والمناطقية وغيرها من الأمراض التي تحولت لمظالم مرفوعة، بينما لم تكن سوى نوع من التزييف، وأحد وقود الصراع.

حدث الانفصال بموجب استفتاء شعبي جنوبي وانفصل الجنوب عن الدولة الأم، وما هي النتيجة؟

ظلت الدولة قائمة في السودان، وغرق الجنوب في الفوضى والعنف والتمزق، وفي الجنوب الآن العديد من الحركات المسلحة التي تتصارع وتقتل بعضها البعض، وتحول الجنوب إلى حرب ودماء وفوضى وعصابات تأكل الأخضر واليابس، وفرضت على هذه الدولة المولودة سفاحا العديد من العقوبات الأممية، وأصبحت دولة غير آمنة لأبنائها، وفاشلة كنظام سياسي، وأصبح المواطنون هناك يفرون للشمال للبحث عن الأمان.

والمفارقة الكبرى أن فرقاء الشتات في دولة جنوب السودان، لم يجدوا سوى الخرطوم عاصمة السودان كمكان أفضل لتلم شتاتهم، وترعى الصلح بينهم، أملا في نهاية الحرب الأهلية المفتوحة، بعدما استضافت مدن السودان العدد الكبير من اللاجئين الذين فروا من جحيم الحرب في الجنوب.

المؤكد في الأمر أن السياسيين الانتهازيين الذين قادوا الشارع للتهييج في جنوب السودان، وهم يطالبون في الانفصال هم المتصارعون على السلطة، أما الشارع الذي انخدع بشعاراتهم فهو يدفع الثمن حاليا، والفالح من عوام الناس من يفر من الجنوب إلى الشمال كي يبقى في أمان، وكل هذا جاء بعدما كان هؤلاء جزء من الدولة، ولهم كل الحقوق في الدولة الأم (السودان).

وتلك هي نتيجة النزق السياسي الذي يقوده قادة العصابات الذين يتحكمون بالقوة في الشعب، فلا هم أفلحوا، ولا هم تركوا شعوبهم تعيش كما تريد.

والأغرب من هذا كله أن معظم الدول التي دعمت المتمردين في جنوب السودان ومدتهم بالسلاح والمال ليحققوا حلم الانفصال المشؤوم، تخلت عنهم عندما انفصلوا وتركتهم يتصارعون ويغرقون في الفوضى والعنف والدم.

أعتقد السودانيون يدركون جيدا هذه التطورات أكثر من غيرهم، وما دفع للكتابة في هذا الأمر، هو وجود تطابق كبير في قضية جنوب السودان مع ما يجري حاليا في جنوب اليمن، من ناحية الدوافع التي يقدمها البعض لتبرير الانفصال، والنزق والتهور وغياب الرؤية التي يتسم بها أداء حاملي شعار الانفصال، ودخول العامل الخارجي على خط تأجيج الاحتقان والتلاعب بالأوراق، بدوافع عديدة.

في اليمن أفرزت حرب صيف 1994م  التي اندلعت بعد إعلان الطرف الجنوبي التراجع عن الوحدة ما سمي لاحقا بـ"القضية الجنوبية"، وبدأت هذه القضية حقوقية صرفة، تطالب بعودة كثير من الموظفين الذين جرى تسريحهم بعد الحرب من مدنيين وعسكريين إلى وظائفهم.

استجاب نظام صالح لتلك الدعوات منفذا العديد من الإصلاحات، لكن تلك المطالب تطورت يوما بعد آخر لتصل إلى حد المطالبة بالانفصال وعودة التشطير من جديد.

وعند انعقاد مؤتمر الحوار الوطني الذي جاء كخارطة طريق لليمنيين عقب الثورة الشعبية التي اندلعت في العام 2011م وتسببت بإسقاط نظام الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، كانت القضية الجنوبية أحد القضايا التي استقطبت الاهتمام، أملا في حل هذه القضية، والدخول في عهد جديد لجميع اليمنيين.

غير أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فقد اندلعت الحرب من جديد في اليمن، عقب الانقلاب الذي نفذه الحوثيون بالتحالف مع الرئيس السابق في سبتمبر من العام 2014م، وقضى الطرفان على مخرجات مؤتمر الحوار، ولاتزال البلد تعيش حالة حرب حتى اليوم.

أثارت هذه التطورات على الوضع في الجنوب من جديد، وبدلا من التمسك بمخرجات مؤتمر الحوار التي قدمت حلا بتحويل نظام الحكم إلى النظام الفدرالي، انتعشت من جديد الدعوات المطالبة بالانفصال، خصوصا بعد حصول زعماء هذا التيار على الدعم والمساندة من أطراف عربية، بغرض الحصول على مكاسب اقتصادية.

اليوم تكاد تكون المبررات التي يقدمها أنصار الإنفصال في اليمن، وواقعهم الحالي مشابهة تماما لما كان يحصل في جنوب السودان، إذ يعتقد هؤلاء أن الثروة النفطية تتركز في الجنوب، وأنه ليس من العدل أن يتقاسموا تلك الثروة مع الشمال، وأن انفصالهم سيعيد لهم دولة مستقلة ترتقي بهم إلى مصاف الدولة الإقتصادية الكبرى، وتصبح على غرار دبي وشنغهاي، وهي نفس الحجج التي كان زعماء الانفصال في جنوب السودان يرفعونها في وجه الشعب بالجنوب، بأن دولتهم في حال انفصالها ستتحول إلى سويسرا أفريقيا، على حد وصف كاتب سوداني.

هذه الدعوات المطالبة بالانفصال وجدت لها آذانا صاغية في مدن الجنوب اليمني، وساهم الدعم المقدم خارجيا لمن يرفعها في تجذيرها داخل الشارع هناك، فارتفعت وتيرة هذه المطالب، وتحول الأمر إلى فرضها بالقوة، خاصة مع غياب الحكومة اليمنية الشرعية، وضعف أجهزتها الأمنية، ولذلك شهدنا حالات قمع بشعة لكل من ينتمي للمحافظات الشمالية داخل محافظات الجنوب، ووصل الأمر إلى حد القتل، الطرد الجماعي لكل منتمي للشمال، ومصادرة ممتلكات البعض، وسجلت العديد من حالات القتل بناء على الهوية المناطقية.

وجه الشبه يتطابق أيضا  في تصدر عدة تيارات مطالبة الانفصال في جنوب اليمن، وكل تيار يدعي أحقيته بتمثيل كل الجنوب، وقيادة دولته المنتظرة، والصراع على أشده بين تلك التيارات، كما أن الدعوات والسلوكيات المتشنجة المطالبة بالإنفصال في مدن الجنوب لا توجد في الشمال، وفي حال حدث انفصال - لا سمح الله - فستتحول مدن الشمال إلى مأوى للهاربين من لظى الصراع في الجنوب.

في مجمل القول لا يبدو أننا كعرب نستفيد من تجارب بعضنا البعض، ووحدها الشعوب التي تتحمل كل هذه التداعيات التي تفرزها عقليات الساسة وصلفها وتهورها.
 

التعليقات