عندما كنت أفيق ، كنت أخرج إلى "حوش" منزلنا ،إلى قسمه الترابي تحديدا، أجلس والناس ما زالوا نياما ، بيدي كتاب وأمامي صديقتي الحميمة " شجرة التوت " ، أشرب الشاي بعد أن أغمس فيه وريقات من شجرة النعناع التي كنت أزرعها بيدي ، وتكبروتنتشر بعواطفي تجاهها ، جربت زراعة أشياء كثيرة ، ولم يخب أملي ولا فرحي ودهشتي بأي منها.
الصدف الكثيرة تصنع عجائب أكثر، ولكني لم أكن أركن إليها أبدا ، أتعمد كل شيء ، ولا أولي اهتماما لأي شيء لا أختاره أو أصنعه بإرادة كاملة ،لذلك لم أندم يوما على شيء.
بإمكاني اليوم أن أعترف لنفسي ، أنني منذ صرت أمّا لا أكف عن الندم ، أندم كثيرا كلما نام صغيري جائعا ، أو حزينا أو غاضبا ، أحيانا أندم على شيء فعلته ، وأحيانا على شيء لم أفعله . ، رغم أني أدرك صواب كل ما أفعله ، ولكنه قلب الأم الذي لا يكل ...
عندما تسيل دمعة على خد أحدهما ، تحفر في قلبي ، وعندما يبتسمان تزهر الحياة من حولي ، عندما يتألم أحدهما ، أحترق لعجز قدرتي عن استعادة ما بهم من ألم ورده إلي ، وعندما يشفى ، أنسى معنى الألم مهما يكن بي .
وكلما ندمت ؛ تذكرت دموع أمي المشابهة غير أني لا أبكي ، أندم فقط ، وأنزف كتابة . الدموع تقتل المشاريع الكتابية ، واللحظات التي قد ننجب منها مولودا أدبيا ، لذلك أتغلب دائما على رغبة البكاء .
أمي كالكثير من الأمهات لا تكتب ، لذلك تبكي كثيرا ، عند أي طارئ حزن أو شجن . فكيف لا تبكي عندما يكون الأمر متعلقا بالندم ، وهو النار التي تأكل حطب القلب .
كيف بإمكاني أن أصبح أما بلا ندم ، مثلما أصبحتها بلا بكاء ، أفكر في هذا ويتبادر إلى ذهني مباشرة ، الحريق الذي تعيشه قلوب أمهات المعتقلين والمختطفين ، الحريق الذي يشعله ظلم الأبناء أمام قلوب الأمهات ، وتسعره قلة الحيلة ، لا أدري هل يوجد ما هو أشد ألما من هذا ؟!
الذين رحلوا هم في ضيافة رب كريم ، أرحم وأحن بهم من قلوب أمهاتهم ، مهما بلغت غصة الفقد والحزن عليهم . أما هؤلاء فحزنهم حزن ، وألمهم ألم ، لا تكفي كل القواميس لشرحه وتوضيحه . وما أولئك الذين يتساقطون كمدا على أبنائهم المعتقلين إلا "غيض من فيض ".
لا أدري كيف يمكن لقلبٍ أن يتحمل مجرد فكرة أذى قد يلحق بأي ممن يحب ، دون أن يتمكن من إنقاذه أو تقديم العون له ، لاسيما إن كان ذلك ابنا ، وكان ذلك القلب قلب أم ..
لكم أن تتخيلوا معي ، قلب إحدى الأمهات وهي تقول : كلما أعلنوا عن وفاة معتقل أمسك على أذنيّ ، وأغمض عينيّ ، كي لا أسمع ، ولا أرى ،خشية أن يكون ذلك المقتول ابني ، في الليل أتوسل النوم كثيرا ، ولكني كلما توسلته أكثر ، مر من أمامي شبح الطائرات ، فيفز قلبي ، خشية أن يكونوا قد وضعوا ابني في مكان مهيأ لاستقبال الصواريخ .
أنا لا أتحدث عن أسرى حرب ، وإن كان الأسرى أيضا لهم حقوق يتوجب على أي جهة أي كانت الالتزام بها وعدم تجاوزها ، نتحدث عن معتقلين ومختطفين أبرياء ، اختطفوا من بيوتهم من بين أبنائهم ، أو من أماكن عملهم ، أو حتى من الشارع ، المهم في ذلك كله ،أنه لا ذنب لهم ولا حتى تهمة ، وأودعوا في معتقلات سرية ، يصبون عليهم سوط عذاب ، بلا رحمة أو ضمير أو أي معنى من معاني الإنسانية .
عندما نستمع أو نقرأ حكايات المعتقلين الذين استطاعوا النجاة ، نتخيل أننا نستمع لقصص من نسج الخيال ، وعندما نرى بأم أعيننا تصعقنا الفاجعة، فاجعة أن نكون بشرا ولا نكون ، أن تستأسد علينا الكلاب ، أن تفعل بنا مالايستوعبه عقل ، وعلى دراية ومرأى ومسمع من العالم أجمع .
الجثث التي تخرج من سجون الحوثيين ، إما أن تكون جثثا بلا أرواح ، وهؤلاء هم الذين يموتون بين مخالبهم أثناء التعذيب ، أو أرواح بلا جثث ، وهؤلاء هم الذين يتم إطلاق سراحهم ، بعد أن يكون الدم قد سال من أفواه جلاديهم ، دليل على الارتواء من دمائها .
تخيلوا أن يغيب شخص عن أهله لسنوات ، أو حتى أشهر ، وهو بكامل قواه العقلية والجسدية ، بكامل لياقته وأناقته وثرائه المعرفي ، ثم يخرج بعدها شبهه ، ولا يخرج هو ذاته ، لا جسد ولا صحة وأحيانا ولا حتى عقل ، إعاقات كلية او جزئية ، إعاقات نفسية ، إعاقات ذهنية لدى البعض ، ماذا تبقى إذن ؟
يارب كن بتلك القلوب رؤوفا رحيما ، خفف عنها ، ورد كل غائب لأهله سالما معافى . فقد نضجت كل القلوب ، وتبخر منها معنى الحياة.
* المقال خاص بالموقع بوست