بذل المبعوث الأممي الثالث إلى اليمن، البريطاني مارتن غريفيث، جهودا مضنية لجمع الحكومة الشرعية والمليشيات الانقلابية إلى طاولة السلام في السويد هذه المرة، لاجتماع مشاوراتٍ قيل عنها غير مشروطة، لبحث خريطة سلام جديدة للحل في اليمن بعد أربع سنوات من الحرب الطاحنة.
زار غريفيث اليمن أكثر من مرة خلال أسبوعين، زار مدينة الحديدة حيث تدور حرب طاحنة منذ أشهر لاستعادتها من تحت سلطة المليشيات الانقلابية التي تمثل لها الحديدة آخرَ منفذ على العالم، ومورداً اقتصاديا ضخما لمجهودها الحربي الذي تعد المساعات الإنسانية أهم موارده.
قد يكون غريفيث نجح، هذه المرة، من خلال استجلاب ضغط دولي كبير مورس على الحكومة الشرعية والتحالف، لإيقاف الحرب في الحديدة والذهاب إلى جنيف، وقدمت تنازلات كبيرة للمليشيات الانقلابية أيضاً لدفعها إلى هذه المشاركة التي هي في أمسّ الحاجة إليها، لكن كل المؤشرات حتى اللحظة تقول إنها لن تكون مشاوراتٍ جادة وحقيقية، بقدر ما هي محطة تسجيل حضور لغريفيث مبعوث سلام في اليمن، كسابقيه، جمال بن عمر وولد الشيخ.
بدءاً من عدم وضع أي شروط لهذه المباحثات التي تم تقديم تنازلاتٍ كبيرةٍ فيها منذ لحظتها الأولى، في مقدمتها تسفير خمسين جريحا حوثيا إلى عُمان، بينهم ضباط وخبراء إيرانيون ولبنانيون من حزب الله، فيما كان يفترض مقابل ذلك إطلاق سراح القادة الأربعة الكبار، وزير الدفاع السابق محمود الصبيحي والقيادي الإصلاحي محمد قحطان، وناصر منصور هادي، شقيق الرئيس عبد ربه منصور هادي والعميد فيصل رجب، بادرة حسن نوايا مقابل الخمسين جريحا.
يجتهد غريفيث في حقل ألغام شديدة التعقيد، محاولا القفز فوق ذلك كله في الحديث عن نجاح، لمجرد خطوة كهذه لجمع الفرقاء على طاولة مشاورات، وليس مفاوضات حقيقية، وربما أنه يكتفي بفكرة عقد الاجتماع فحسب للحديث عن نجاح. وهذا كله قفزٌ فوق حقائق الواقع المعقد الذي يريد غريفيث، ومن وراءه، الحديث عن التداعيات الإنسانية لهذه الحرب، من دون الاقتراب من جذورها وأسبابها الحقيقية.
بعد أربع سنوات حربٍ على أثر انقلاب طائفي غاشم، أدخلت اليمن في حربٍ أهليةٍ وإقليميةٍ طاحنة، وهي حربٌ ليست مرتبطة بالمستقبل، بقدر ارتباطها بالماضي، وأوهامه وتصوراته العتيقة عن الله والدولة والمجتمع والناس، ومحاولة استخدام ذلك كله في معركة سياسية للاستحواذ على خيارات الناس وإرادتهم، ومحاولة تشكيلها وقولبتها، حسب الماضي وخرافاته.
المعركة اليوم في اليمن التي يحاول بعضهم تصويرها أنها معركة أقلية مضطهدة، فيها مغالطات وأكاذيب كثيرة، وهي معركة شعبٍ يحارب من أجل إرادته الوطنية التي يراد استلابها وفقا لنظرية كهنوتية قديمة، تقوم بقوة السلاح على احتكار حق الناس بالحياة والحرية والكرامة.
معركة اليمن اليوم هي من أجل المستقبل، معركة من أجل حماية حقوق الناس في الحياة والحرية والكرامة، هي معركة من أجل تعزيز قيم الديمقراطية والتسامح والمواطنة المتساوية، وهي جذر الإشكال التي يتعامى عنها المجتمع الدولي، وفقا لقناعاته الكولونيالية فحسب، التي بُنيت تصوراتها حسب مصالحها ولعبة الأقليات الطائفية والدينية.
وانطلاقا من هذه الحقيقة المغيبة عن معركة اليمن، ومعركة الشعوب العربية كلها اليوم، إنها معركة حقوق وحريات وكرامة، فإن المجتمع الدولي في اليمن وغيرها ليس سوى لاعب إشكالي، وليس بحثا عن السلام، بقدر ما هو بحث عن إعادة هندسة المجتمعات العربية، وفقا للعبة الأقليات الحاكمة والأكثرية الشعبية المضطهدة.
وبالتالي، لن تقدم جولة استكهولم أي جديد في إنهاء حرب والسلام في اليمن، وستبقى محطة كسابقتها دليلا على عدم جدية الطرف الانقلابي بالسلام، وهو الطرف الذي يستند إلى نظرية العنف والخروج المسلح، فضلا عن النشأة الدموية الأولى لهذه الجماعة التي رسمت مستقبل جماعةٍ لا يمكنها العيش إلا في إطار الحرب والحرب فقط.
كل يوم يمر من دون حسم معركة استعادة الدولة وشرعيتها في اليمن ضياع للوقت، ومضاعفة التضحيات والخسائر والكلفة التي يدفعها اليمنيون كل يوم من دمائهم وممتلكاتهم وحقوقهم، عدا عن أن هذا العبث تحت لافتة السلام ليس سوى تأسيسٍ لجولات من الحرب الطاحنة التي لن تتوقف إلا لترتيب أوراق هذه الحرب، والانطلاق لجولات حرب مقبلة، وهذا ما يفعله غريفيث، في مشاورات استكهولم، وهو الراعي الدولي والأممي للسلام في اليمن.
* نقلا عن العربي الجديد