لو ترك اليمنيون في حالهم لخرجوا متفقين بسهولة، هذا ما أثبتته اجتماعات السويد التي أنجزت اتفاقا مبدئيا بين الأطراف اليمنية حول وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى والمعتقلين وإدارة موانئ الحديدة وصليف ورأس عيسى، والتفتيش والمراقبة وإيصال المساعدات الإنسانية. لقد تصافح اليمنيـّان اللذان يمثلان طرفي النزاع والابتسامات تعلو وجوه الجميع، خاصة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش ومبعوثه الخاص لليمن مارتن غريفيثس. فاليمنيون قادرون على المصافحة اليوم والعودة إلى الاقتتال غدا وحل مشاكلهم بعد غد إذا لم تتدخل دول الجار في شؤونهم.
لكننا لاحظنا أن التصريحات المتناقضة وادعاء كل طرف بأن الاتفاقية عززت موقفه وثبتت مواقعه، جاء مباشرة بعد انفضاض الاجتماع. فالرئيس المعترف به دوليا عبد ربه منصور هادي، أطلق تغريدة يدعي فيها أن الحديدة حسب الاتفاق عادت إلى الشرعية. وذهبت قناة “العربية” إلى أبعد من هذا بقولها “نوه وفد الشرعية اليمنية أن لا سلام قبل أن يلقي الحوثيون أسلحتهم، ملوحا بالعودة إلى العمل العسكري إذا تمسك الحوثيون بالميناء” أي أن التحالف يريد أن يحقق بالمفاوضات ما عجز عن تحقيقه بالحرب. كما أن بيانا صدر عن “أنصار الله” يفسر الاتفاقية بأن الأمم المتحدة أقرت بأن تبقى الحديدة في أيديهم. وهذه عينة فقط من تضارب التفسيرات في اتفاقية صيغت بطريقة غامضة تقبل احتمالات التفسير، وذلك لكي تضمن الأمم المتحدة موافقة الطرفين عليها. فلو كانت واضحة تماما لربما أثارت جدلا أكبر وربما انفض المشاركون في المحادثات بدون اتفاق.
لا خلاف على أن الظروف التي تمر بها الدول التي تحارب بعضها بالوكالة في اليمن اختلفت كثيرا عن تلك التي كانت سائدة أيام آخر جولة محادثات في الكويت عام 2016. فالضغوط الدولية على دول التحالف العربي، التي يمكن أن نختصرها في دولتين هما السعودية والإمارات، ما زالت تتعاظم لوقف الحرب بعد افتضاح أمر جريمة العصر التي تمثلث في الطريقة التي تم التخلص فيها من الكاتب والصحافي السعودي جمال خاشقجي. فمن النتائج غير المقصودة من تلك الجريمة هو خروج حرب اليمن من التجاهل إلى مركز الاهتمام الدولي. الكونغرس الأمريكي يصوت بغالبية كبيرة، يدعو لوقف الحرب، ودول عديدة توقف تصدير السلاح إلى الدولتين. المأساة الإنسانية في اليمن وشبح المجاعة أصبحتا تتصدران اهتمام كبريات الصحف ومحطات الأخبار، كما تمثلت في صورة الطفلة أمل حسين في صحيفة “النيويورك تايمز”. الضغوط الداخلية في الولايات المتحدة على إدارة ترامب لتغيير سياسته من دعم دول التحالف بدأت تثمر، ولم يعد هناك مجال أمام ترامب بالاستمرار في هذه السياسة، خاصة أن مجلس النواب قريبا ما يستطيع أن يجبره على ذلك، بعد فقدان الأغلبية لصالح الحزب الديمقراطي، الذي سيعمل في السنتين المقبلتين على فرملة سياساته المتهورة.
من جهة أخرى فإن إيران في وضع لا تحسد عليه بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الموقع بين إيران والدول الست، حيث بدأت البلاد تعاني من أثر الحصار الاقتصادي وإلغاء العديد من العقود والاتفاقيات تخوفا من سياسات الولايات المتحدة العقابية. وتحاول إيران أن تقنع بقية الدول الموقعة على الاتفاقية باحترام التزاماتها. فقد قام جواد ظريف بجولة شملت الصين ودولا أوروبية لهذه الغاية. كما تحاول إيران أن تحسن من صورتها عالميا، وتثبت للعالم بأنها دولة مسؤولة تحترم تعهداتها وتسعى إلى بذل جهود حقيقية لإنهاء الصراع في سوريا، بالتعاون مع روسيا وتركيا، وأنها ليست في مزاج لتأجيج النزاع في اليمن، فمصلحتها الحقيقية في هذه الظروف التعامل مع وضعها الاقتصادي الصعب، خاصة بعد تراجع قيمة الريـال الإيراني وأثر ذلك على نسبة الرضى الشعبي عن نظام الحكم.
تلك الظروف خدمت الأمم المتحدة جيدا ومنحتها فرصة للتوصل إلى هذا الاتفاق الذي يمنح المنظمة الدولية دورا أساسيا فاعلا. فقد استطاع المبعوث الدولي، مارتن غريفيثس، أن يحصل على تنازلات من الطرفين الأساسيين للنزاع لصالح المنظمة الدولية، أي أن التنازلات قدمت لا للطرف الآخر، بل للأمم المتحدة لتقوم بهذا الدور الذي سيتعاظم أكثر مع دخول الاتفاق مجال النفاذ.
فمراقبة الموانئ وإدارتها ونشر قوات المراقبة الدولية والتأكد من التزام الأطراف بوقف إطلاق النار، وتعيين الإدارات المدنية وقوات الأمن الداخلي في الحديدة، وإنعاش عمليات الإغاثة الإنسانية وضمان فتح الطرق المغلقة لتوزيع المساعدات، كلها من مسؤولية الأمم المتحدة. ولذلك لم يتوان غريفيثس لحظة في الاضطلاع بالمسؤولية، فعين اللواء الهولندي المخضرم باتريك كامارت، الذي سبق وقاد عدة بعثات للأمم المتحدة، كان آخرها بعثة السلام في الكونغو. كما بدأت اللجان المتخصصة بالعمل فورا للتحضير للمهمات الجديدة التي تنتظرها في اليمن، وكما أكد غريفيثس لمجلس الأمن أن الطرفين قد قدما له تأكيدات باحترام الاتفاق: “لقد ناقشنا كيف يمكن للأمم المتحدة أن تلعب دورا قياديا في تشغيل الميناء. يجب علينا القيام بذلك بسرعة من خلال المناقشات مع جميع الأطراف. فحسب اعتقادنا أنه من خلال لعب هذا الدور، سنساعد في الحفاظ على شريان الحياة للناس في اليمن”. فالهاجس الإنساني هو في قمة أولويات الأمم المتحدة في اليمن، ولكن قبل أن يتم الاتفاق الشامل على ترتيبات توزيع المساعدات الإنسانية، يجب أن يحترم وقف إطلاق النار، وأن تنتقل إدارة الموانئ للأمم المتحدة. وستكون لقاءات الكويت في نهايات شهر يناير/كانون الثاني 2019 فرصة لمراجعة أداء الفرقاء في ما اتفقوا عليه في السويد.
يكاد يكون هناك إجماع بين الكتاب والمحللين على أن الوضع الداخلي للسعودية، بعد جريمة خاشقجي والضغوطات التي مورست عليها عالميا، خاصة من الكونغرس الأمريكي، لعب دورا في التوصل إلى هذا الاتفاق. فقد ذهب رئيس الوفد الحكومي خالد اليماني ولديه أشبه ما يكون بالتفويض الكامل للتوصل إلى اتفاق. لكننا نعتقد أن هناك مصادر تدعونا للقلق حول بعض الجهات التي لا تريد للاتفاق أن يرى النور. أول هذه الأطراف الرئيس اليمني المعترف به شرعيا عبد ربه منصور هادي. فهو يشعر بأن الاتفاق تجاوزه، ووضع الحوثيين على قدم المساواة معه، وأصبحوا ندا له لا طرفا متمردا على الشرعية، وجماعة انقلابية فرضت سيطرتها على العاصمة اليمنية وبقية المناطق بالقوة المسلحة، كما أشار إلى ذلك القرار 2216 (2015) الذي اعتمد في ظروف تختلف عن الظروف الحالية، خاصة بعد التقارير المتتالية حول ارتكاب قوات التحالف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ضد المدنيين في اليمن خاصة الأطفال. إن الندية في التعامل بين الطرفين قد يؤدي إلى تمرد بين أنصار الشرعية الموجودين على الأرض، الذين يعتبرون أن السعودية ساومت عليهم لتخرج من أزمتها الداخلية على حسابهم.
أما التخوف الثاني الذي يجب أن نضعه في الحسبان فهو موقف الإمارات العربية المتحدة، التي لا تشعر بالضيق نفسه الذي تعيشه السعودية، ولا ترى أنها في عجلة من أمرها لإنهاء هذه الحرب. فالإمارات منذ بدايات النزاع المسلح اختطت لنفسها سياسة ليست بالضرورة متناغمة مع الخط العام للسعودية، بل أقرب إلى رؤية خاصة بمصالحها الخاصة، خاصة في حرب السيطرة على الموانئ البحرية. فالإمارات حاليا تخوض حربا غير معلنة مع الصين وباكستان وقطر، حيث استثمرت الصين مليارات الدولارات لتطوير وتوسيع ميناء غوادر الباكستاني الأضخم في الشرق كله، الذي سيهمش ميناء دبي لا محالة. لذا عملت الإمارات منذ البداية على السيطرة على موانئ اليمن، خاصة عدن ودفعت باتجاه إعادة السيطرة على ميناء الحديدة وصليف ورأس عيسى، واستقدمت لذلك العديد من المرتزقة من العالم لخوض هذه الحرب. كما أنها تصرفت في الجنوب اليمني وكأنها قوة احتلال تسجن وتعذب وتقتل وتدرب وتأمر وتنهي، لذلك نعتقد أن الإمارات ليست في واردها أن تخرج من كل هذه الميمعة خالية اليدين.
أما الطرف الثالث الذي قد يحاول أن يخرب الاتفاقية على الأقل في مراحل مقبلة هم الحوثيون الذين يشعرون بأن الزمن الآن يسير لصالحهم، بعد هذا الاعتراف الدولي بهم، والتعامل معهم بندية كاملة مع الشرعية- فقوتهم السياسية في تصاعد، وقوة الشرعية في تآكل. وكل التنازلات التي قدموها للأمم المتحدة مثل الانسحاب العسكري من الحديدة قابل للتأويل. فلو عاد المسلحون إلى بيوتهم في الحديدة لاعتبر ذلك تنفيذا للاتفاقية، لكن جاهزيتهم للتجمع ومتابعة القتال تظل قائمة. فقد يصابون في لحظة بالغرور، بعد توقف القتال وتراجع شبح المجاعة، ويحاولون إما توسيع نفوذهم أو فرض شروط صعبة في تشكيل القيادة الانتقالية في مرحلة التراخي، خاصة أن حجم النقمة شعبيا على دولتي التحالف كبير بسبب المآسي التي أصابت غالبية الشعب اليمني.
إذن نحن على مفترق طرق، كثير منها يقود إلى المخاطر. فهل تستطيع المنظمة الدولية أن تقود المسيرة وتلج الطريق السليم الذي يجنب اليمنيين المزيد من المآسي ويوصلهم إلى برّ الأمان؟
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز بنيوجرسي
*عن القدس العربي