من لا يتضامن الآن مع الشعب اليمني ويرفع صوته عاليا ضد هذا الصلف السعودي، فهو شريك بشكل مباشر أو غير مباشر في أكبر جريمة إنسانية تنسج خيوطها الآن ضد شعب عربي أصيل، لا ذنب له إلا أنه أخذ رهينة من قبل ما يسمى التحالف العربي، ووقع بين فكي كماشة المتصارعين، فلا الطيران سيحسم المعركة من الجو، ولا تحالف أنصار الله ومليشيات الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح قادرة هي الأخرى على حسم المعركة لصالحها.
والنتيجة أن وقع اليمنيون في رحى آلة الموت، التي تحصد يوميا المئات ظلما وقهرا، ومن ينجو من صواريخ التحالف يقع فريسة للكوليرا أو الدفتيريا أو المتفجرات أو المفخخات أو الألغام.
ونحن نكتب أو نقرأ هذه الكلمات، يواجه الشعب اليمني خطر مجاعة محتمة، قد تكون الأكبر في العصر الحديث، وتتفوق على مجاعة الصومال عام 2011.
عشرون مليونا، من بينهم أحد عشر مليون طفل، مهددون بالموت جوعا الآن، بسبب الحصار المطبق على اليمن برا وجوا وبحرا، بل أن هناك تقارير تؤكد أن المجاعة بدأت فعلا، فلم يبق من مخزون الغذاء في البلاد إلا ما يكفي لمدة أربعة أسابيع. مخزون الأدوية يتآكل بسرعة.
اليمن في ظل الحرب يستورد نحو 90% من احتياجاته اليومية، بما في ذلك الوقود الذي نفد أو كاد.
السعودية ألغت 32 رحلة إغاثة إنسانية جوية متوجهة إلى اليمن، وترفض أن ترد على الطلبات الجديدة المقدمة من المنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة. إذن هو برنامج متعمد- لا يقولن أحد إنها الحرب أو استراتيجية كسب المعركة، أو محاولة لكسر شوكة الخصوم، بل المطلوب كسر اليمن وتدميره وبعثرة شعبه وتشريده، كي لا يبقى شوكة في خاصرة دولة القبيلة. لا أحد بريئا، حماية شعب اليمن لا يكون بقتله وإنقاذ اليمن لا يكون بتدميره.
ليست هي المرة الأولى التي تتدخل السعودية في اليمن لكسر شوكته منذ عام 1962. فمصيبة اليمن الدائمة أنه جار للمملكة العربية السعودية. ولا تترك السعودية فرصة إلا ودست أنفها في شؤون هذا البلد العريق، الذي إليه نعود بأصولنا كأمة.
تدخلاتها في اليمن سبقت كثيرا الثورة الإيرانية. هدفها الإستراتيجي كان وما زال أن يبقى اليمن ضعيفا وفقيرا وغير ديمقراطي، كي لا يؤثر في دولة الجوار. وسنمر على ثلاث محطات كبرى تدخلت في السعودية مباشرة، أو بشكل غير مباشر لتحقيق هدف إبقاء اليمن متخلفا وضعيفا ومبعثرا وجائعا، يبحث عن صدقات لا تنمية رشيدة.
كان اليمن مملكة تنتمي للعصور الوسطى، ومنغلقة تماما عن العالم، يحكمها الإمام البدر. وفي 26 سبتمبر 1962 قامت ثلة من الضباط الأحرار بالجيش اليمني برئاسة عبد الله السلال وبتخطيط وتدبير من الدكتور عبد الرحمن البيضاني وأعلنت إنهاء المملكة المتوكلية اليمنية. فما كان من السعودية إلا أن جندت القبائل وحرضتها على الثورة، تخوفا من قيام دولة عصرية قومية بدعم من قائد الأمة آنذاك الرئيس جمال عبد الناصر. وقد تلقت السعودية دعما آنذاك من الأردن وبريطانيا وإيران وإسرائيل، كما أثبتت الوثائق فيما بعد، وشرح هذا التدخل الصحافي المرحوم محمد حسنين هيكل، كما بثت «الجزيرة» برنامجا عن الوثائق التي تثبت تورط إسرائيل في حرب اليمن.
جندت السعودية نحو 200 ألف رجل من القبائل مقابل مجموعة من الامتيازات بما فيها منح الجنسية السعودية لمناطق حدودية شاسعة، يساندهم نحو 15 ألفا من المرتزقة الأوروبيين لسحق الثورة الوليدة. ورغم استنزاف قدرات الجيش المصري الذي أرسل نحو 70 ألف جندي، إلا أن النهاية كانت انتصار الجمهوريين وفك الحصار عن صنعاء في 7 فبراير 1968 بعد 70 يوما من الحصار، وبالتالي دفنت دولة الإمامة مرة وإلى الأبد، واضطرت السعودية للاعتراف بالجمهورية اليمنية عام 1971، كما هزمت بريطانيا من جنوب اليمن وانسحبت عام 1967.
كان علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض قد أعلنا وحدة شطري اليمن الشمالي والجنوبي في شهر مايو 1990 ليصبح صالح رئيسا لكل اليمن. وقد أثارت هذه الوحدة قلق السعودية أولا، لأن دولة اليمن تعتبر اكبر دولة في منطقة الخليج من حيث عدد السكان، ذات موقع إستراتيجي مهم يطل على خليج عدن والبحر الأحمر. وقد أخذ صالح موقفا أقرب إلى تأييد العراق بعد احتلال الكويت في 2 أغسطس 1990. فاعتبرت السعودية هذا الموقف نوعا من الخيانة وطعنة في الظهر، فقامت بطرد مليوني يمني من السعودية. وقررت أن تؤدب علي عبد الله صالح بدعم الحركة الانفصالية في الجنوب التي، للأمانة والتاريخ، أنها تشكلت لأسباب تتعلق بتصرفات صالح والتعامل مع الجنوب كأنه أرض محتلة. فما كان من السعودية إلا أن استغلت الفرصة ودعمت الانفصاليين بالمال والسلاح، وقامت بتدويل الأزمة فورا، وطلبت من الأمم المتحدة التدخل، فما كان من بطرس غالي إلا أن أرسل صديقه الأخضر الإبراهيمي مبعوثا خاصا لوقف القتال والوساطة من أجل تسوية ما، إلا أن صالح كان يفاوض الإبراهيمي، وفي الوقت نفسه قواته تدمر آخر معاقل الحركة الانفصالية وأعلن بتاريخ 7 يوليو 1994 الانتصار.
لم يتوحد الشعب اليمني في العصر الحديث أكثر مما توحد في ثورته العظيمة ضد الطاغية علي عبد الله صالح، الذي اغتصب السلطة عام 1978 وسام البلاد كل أنواع القهر والظلم والفساد والمحسوبيات، وضرب مكونات الشعب الواحد، ولعب على ورقة «القاعدة» لاستدراج الولايات المتحدة لدعمه، وكوّن جيشا موازيا لجيش اليمن تحت اسم الحرس الجمهوري يضم 37 لواء سلمه لابنه أحمد، ووضع أقاربه وإخوته وأولاد إخوته في مناصب مفصلية. كما كدس ثروة تزيد عن 60 مليارا في بلد يعتبر من بين الدول العشرين الأقل نموا في العالم. حارب الحوثيين في الشمال، وطلب مساعدة السعودية في قصفهم بالطيران عام 2004 و2009 ثم عاد وتحالف معهم. وانقلب على القبائل، وغدر بالحزب الاشتراكي اليمني، ولعب بكافة الأوراق التي تبقيه في السلطة حتى ولو على جثة اليمن.
قام الشعب اليمني إذن بكافة أطيافه ضد هذا الطاغية الأرعن، في أعظم ثورة سلمية تجاوزت المسألة القبلية وحافظت على سلميتها، رغم استفزازات صالح وميليشياته؛ بل تجاوزت مسألة المجتمع المحافظ، خاصة بالنسبة للنساء حيث انضممن إلى صفوف الثورة، لدرجة أن جائزة نوبل للسلام لعام 2011 منحت للسيدة توكل كرمان مكافأة للمرأة اليمنية على دورها في الثورة. وكانت المظاهرات السلمية لا تتركز في مدينة أو مدينتين، مثل بقية الدول العربية بل شملت نحو 17 محافظة بدون ملل أو كلل.
إذن ثورة اليمن أطلقت صرخة إنذار مبكر لدول الجيران، خاصة السعودية فقد تترك أثرها العظيم في ما لو نجحت في الدولة الأكثر التصاقا باليمن. لذلك كان لا بد من إجهاض الثورة وبطريقة خبيثة. فجاءت المبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية، أساسا لإجهاض الثورة وحماية الطاغية من أية مساءلة وإبقاء الوضع كما هو عليه، واستبدال الرئيس بنائبه، الأمر الذي لم يرق كثيرا لا لصالح ولا لابنه أحمد، وقررا أن يعاقبا الشعب اليمني برمته، لأنه كان مصمما على إسقاط النظام بعد 33 سنة من الفوضى والحروب والفساد.
تعرض علي عبد الله صالح لمحاولة اغتيال من أحد أفراد عائلته في 3 يونيو 2011 إلا أن طائرة خاصة سعودية نقلته فورا للعلاج في السعودية، وتم إحضار طواقم من الأطباء من دول غربية، بما فيها الولايات المتحدة إلى أن تماثل للشفاء فأعيد إلى اليمن في سبتمبر 2011 لمتابعة دوره التخريبي الذي تكتوي منه السعودية ومعها اليمنيون. الشعب اليمني لم يعد يهمه من على صواب أو من على خطأ من هو الشرعي ومن هو الخارج عن القانون، من هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه.
الشعب اليمني، بمقدار ما يمقت صالح وما جره على اليمن من مصائب بمقدار ما يتحد في مقت السعودية، مصدر الوجع الدائم لليمن منذ ثورة سبتمبر عام 1962 وحتى اليوم. هذه المرة يبدو أن السعودية رأت فرصتها قد لاحت لتدمير اليمن بلدا وشعبا عن طريق الحصار والتجويع والقصف وانتشار الأوبئة. إنها أمنيتها الدائمة ألا ترى اليمن في موقعه الإستراتيجي، بلدا موحدا قويا سيدا يحكمه القانون ويلتزم بتبادل السلطة وحرية الأحزاب واحترام حقوق الإنسان، كما وعد القائمون على الثورة السلمية، فبلد بتلك المواصفات، لو استقر فعلا، لترك بصماته على أنظمة الجوار لا محالة.
*نقلا عن القدس العربي