جهاد الجفري

جهاد الجفري

كاتبة وقاصة يمنية

كل الكتابات
يا عبدالله انا صفية بنت حسين
الخميس, 24 يناير, 2019 - 04:19 مساءً

عمي ناصر عبد القوي السلفي (من قرية سلفة في يافع ):سأل أمي سؤالاً جوهرياً وغريباً :يا صفية هل بحثتم عن عبدالله ؟كان السؤال مضحكاً مبكياً بالفعل.
 
أجابت أمي وهي تضحك من السؤال والدموع تملأ عينيها وتنزل على وجنتيها : يا أخي ناصر أيش تقول؟
 
أنا قضيت أغلب أيام حياتي على أبواب السجون !!!!!!!!
 
عبارة أمي مزقتني ،أوجعتني كثيراً وأخرجتني من أرضي أرسلتني إلى عالم طالما عهدته ، إنه عالم وجع لا آخر له ،رد أمي كان ردأ ساحقاً لي قبل أن يكون له ولها قبلنا جميعاً ،آه يا امااااه على هذا التعبير القاتل آه يا أمي آه يا وجعي ،قضيت أغلب أيام عمري على أبواب السجون ،عبارة لم أنسها ولن أنساها ،لقد سطرت بمشرط من نار على قلبي .وسقطت دموعي ودموعها ودموع عمي ناصر اليافعي الذي اهتزت أركانه وهو يقول بحزم : الآن دوري ، الآن دوري أبحث عن أخي وصديق عمري بعدما رفعوا عني الإقامة الجبرية وأعطوني حريتي في الحركة ،ومعنا معاريف وأصحاب في السلطة.
 
فتح كلامه لأمي باب أمل جديد ، استبشرت خيراً وفرحت فرحاً كبيراً ،فقد كانت تدوّر على لمحة ضوء تنير لها دربها إلى زوجها فهي لم تقطع الأمل ولن تقطعه فقد عاهدت الله أنها ستنتظر زوجها إلى الأبد.
 
امتلأت نفسي بالشفقة على أمي واستحضرت ذاكرتي معاناتها الطويلة جراء خيبات الأمل المتلاحقة ،قلت له : يا عم لا لا لا داعي فقد بحث أهلي في كل مكان.
 
لم تدعني أمي أكمل صرخت بصوت قوي لااااااا ، كان في صوتها أمراً لي بالسكوت قالت :خلية يدور على أخوه.
 
كنت أتململ أريد إيقاف هذا الحوار ولكن لا فائدة.
 
قال :أوعدش يا صفية أختي أجيب لش خبر بدي اليومتين (أن آتي لك بالخبر خلال يومين)،ثم أعطى أمي البن اليافعي وهو يتمتم: هذه عادتي من يوم عرفت عبدالله أني ما أقطع عنه البن اليافعي وبكى فبكت أمي وقالت: حتى البن اليافعي فارقنا بعد فراق عبدالله.
 
قال :ما عاد با أقطعه عليكم ، ثم سلم وغادر.
 
كانت أمي حزينة وسعيدة في آن واحد ،حزينة على حالها وسعيدة بظهور سند لها يحمل هم البحث عن صديقه.
 
وذات يوم ليس ببعيد طرق الباب فقلت من؟
 
أجاب :عمك ناصر
 
فتحت الباب وإذا به متهلل الوجه مستبشراً فرحاً يقول :فين أمك
 
أجبته: عند الجيران ، ادخل وسأناديها ، دخل ينتظرنا ، كان أخي موجوداً فالتقى لأول مرة بأخي وبكى كعادته وهو يكرر قوله : سامحوني.
 
نزلت أنادي أمي فجاءت مسرعة وأول ما شافها قال :افرحي افرحي أعطوني موعد زيارة لعبدالله في سجن فتح ،فسقطت أمي أرضا ساًجدة لله شاكرة له وهي تتمتم ،أخيراً سأراك يا عبدالله ، ورفعت رأسها وسألت : متى نروح ؟
 
قلت سريعا قبل أي رد : أيش رأيك يا عم تروح وحدك لو شفت أبي خذ لنا موعداً آخر ،وجن جنون أمي كأني طعنتها بسكين ،غضبت ورفعت صوتها انت لا تتدخلي ، أنا وحدي أروح لزوجي وووووو.
 
كان عمي ناصر يقول : طيب با نشوف، وأخي : يقول قد دورنا في كل مكان ووو وكثر اللغط وأمام إصرار أمي على الذهاب قلت لها : إذاً أنا سأذهب معك.
 
قالت : لا أنت لا
 
قلت أروح معك رجلي على رجلك.
 
قال عمي ناصر : الموعد بعد بكرة يوم الإتنين.
 
لم أفرح مطلقاً ، بل زاد بداخلي الخوف والترقب والقلق ،أما أمي فأحضرت الحناء وحنت شعرها الجميل الناعم الطويل ،وعملت قبضات حناء بيديها وقالت :: تعالي حني لي رجلي.
 
بكيت وأنا أضع قدميها الجميلتين على مجلس صغير قبلتهما وأخذت الحناء ورحت أرسم بها أعظم أقدام في حياتي هاتان القدمان اللتان أدماهما البحث عن أبي ، وأتعبهما الوقوف بصلابة من أجل حمايتنا والذود عنا ،أقدام أمي الحنونة ،كنت أحني قدميها ودموعي تنزف فيما هي تدندن بشجن يشق القلب : ألا ليت يا عبدالله أشوفك الا ليت ليت.
 
كنت أخاف من فرحة أمي وأخاف عليها كثيراً ، قررت أمي ألاّ تخبر أحداً وأن تعتمد الكتمان منهجاً لها ،جاء الموعد وجاء عمي ناصر بسيارة تاكسي أخذها (إنجيز) وذهبنا إلى السجن ، ذهبنا وبقلبي حسرة ووجع من هذا الذي يحدث لكن إصرار أمي على الأمل وعلى الحلم بلقاء أبي كان موجعاً لنا جميعاً إلا هي ،وقد أردت أن أعالجها من هذا الأمل القاتل لكي تفكر في نفسها قليلاً وتسترجع ذاكرة أنوثتها التي فقدتها في مشوار البحث عن أبي لكن دون فائدة ،كنت عندما يقام في العمارة حفل عقد قران لأحد أبناء أو بنات الجيران ، أقول لها : اعملي مكياجاً خفيفاً وخففي عن نفسك الحزن يا اماه ، لكنها تغضب غضباً شديداً وتقول :حرمت على نفسي المزاين والمباخر إلى أن يعود زوجي !!
 
أتعبت النساء من بعدك يا أمي ،ولكن اليوم لابد أن تعرفي أني سأعمل كل جهدي لكي تنسي هذا الأمل ،أريدك أن تعيشي لنا ،لي ،أنا بحاجة شديدة لك ولنفسك.
 
طوال الطريق إلى التواهي كان العم ناصر يتكلم بفخر عن جهده في مساعيه لزيارة أبي ،فقد كان هو كذلك يعيش على الأمل ،الأمل القاسي في انتظار غائب من حوالي عشرين سنة ،الانتظار ساعات يعذب ما بالكم بسنوات!!!
 
كانت أمي مبتهجة وحزينة فقد أنهكت سنوات وسنوات ما بين أمل وألم و بينهما قسوة الأحباب وعناد الحياة والوحدة العميقة التي كانت تعيشها بين أبنائها.
 
وصلنا وكالعادة مازال النسوة يتوافدن كعهد عدن جيلاً بعد جيل ،وهذه المرة نساء من مناطق مختلفة فالجنوب أكل أبناءه سنين طويلة وكحال أغلب دول العالم الثالث ،فالسجون ممتلئه بالمظلومين والنساء طوابير ،المشهد متكرر بنسخ عربية ،الاختلاف في اللهجات العربية فقط.
 
وبحكم الوساطة دخلنا سريعاً ،بدأت الدهشة تعتصرني والأسئلة تجول برأسي هل فعلا سنقابل أبي ؟
 
وفيما أنا شاردة وواقفة بين الحلم والواقع بين الحزن والفرح ،بين نظرة الإنهاك في عين أمي ونظرة الفخر والفرح في عين عمي ناصر ،نادي العسكري أمي فصممت على الدخول معها وبقى عمي ناصر خارج المكتب ،وولجنا إلى مكتب فيه طاولة حديديه وعلى الجانبين كرسيين من الحديد وبالركن كنبة اسفنجية لونها بني غامق وهناك أوراق مبعثرة على الطاولة وانتظرنا حوالي نصف ساعة الى أن جاء ضابط وقال اجلسوا.
 
جلسنا على الكنبة ، نظر إلينا بضيق وقال يخاطب أمي : إلى متى ستبقين تبحثين عن زوجك؟
 
كان سؤاله صادماً لا إجابة له.
 
قالت أمي :إلى أن أموت.
 
قال لها :كم مرات جئت إلى هنا.
 
قالت :مئة أو مئتين لا أتذكر.
 
قال: لازم تعرفي أنه ممنوع عليكم الزيارة.
 
وقفت غاضبة وهي ترفع صوتها : قل لي هو هنا أو لا.
 
قال نعم هنا ولكن ممنوع الزيارة.
 
قالت من تكون أنت لتمنعني.
 
قال :لا تحاولي ممنوع يعني ممنوع
 
تألمت أمي ورفعت صوتها تقول : لولا عبدالله وأمثاله ماكنت جالساً على هذا الكرسي ،يا مجرمين يا ظلمة.
 
خفت عليها من ذلك الضابط فأمسكت بها وقلت لها :هيا نخرج.
 
خرجت وهي غاضبة تزمجر وما أن خطت قدماها خارج المكتب إلا وأطلقت لقدميها العنان تجري با تجاه الزنازين وتصرخ بصوتها كله يا عبدالله يا عبدالله يااااااااا عبدالله أنا صفية وتجري وتجري وكنت أنا في صدمة كبيرة من تصرفها ،وسمعنا همهات من المساجين وأصواتاً مبهمة ،وسمعنا أحدهم يقول: صفية،صفية ،وهي لم تعد تجري بل تقفز في الهواء قفزاً وجاء عسكريان يجريان خلفها ،ثم فجأة تعثرت بشيدرها وسقطت على الأرض ،وأراد العسكريان امساكها ، فصرخت أنا بهما لم أصرخ ، بل زمجرت وخرجت لي مخالب وأنياب ،وأنا أقول : اتركوهااا،لا أحد يلمس أمي ،توقفوا ،أخذتها من الأرض، ساندتها حتى وقفت ومشيت بها ، كانت تلتفت إلى الوراء وهي تصرخ بصوتها كله ياااااعبدالله أنا صفية بنت حسين، وحانت مني التفاتة إلى عمي ناصر فإذا هو يبكي من الخذلان والخديعة والوجع ، و يكرر مع أمي يا عبدالله هذه صفية بنت حسين.
 
كم في السجن من عبدالله وكم لهم من صفيات؟
 
*هذا المقال جزء من مجموعة قصصية للكاتبة، ويعد الجزء الثامن مما كتبت، وسيتم نشر باقي الأجزاء تباعا.
 

التعليقات