جماعة العار في الجنوب
السبت, 09 مارس, 2019 - 04:33 صباحاً

هناك دول مستعمرة للشعوب، وهناك أدوات لهذا الإستعمار، وهذه الأخيرة أكثر خبثا ووقاحة من المستعمر نفسه، وأكثر جناية على الشعوب، إذ أنها تقدم نفسها كممثل للشعب، لكن بصورة شنيعة تخدم المستعمر، وتعمل ضد مصالح الشعب.
 
فبعد وصف عيدروس الزبيدي لبريطانيا بالشريك خلال فترة استعمارها لعدن، وتبرئته لها من وصف المحتل، ظهر عبدالرحمن الجفري في مقطع فيديو قائلا إنهم لم يواجهوا من بريطانيا طوال الـ129 سنة ما يواجهوه اليوم في أسبوع واحد من قبل ما يصفه باحتلال الشمال، وكلاما آخر لا يمكن ينطقه رجل الشارع العادي الغارق في الأمية والجهل.
 
هؤلاء لم يعيدوا الناس إلى جدل الوحدة والانفصال فقط، بل إلى حقبة الاستعمار قبل تشكل الدولة الجنوبية نفسها، والتي كان جميع أبناء الجنوب مجمعين على سوءها، وبذلوا قوافل من الدم للنضال والتحرر من ذلك الاستعمار.
 
لايدري هذا العجوز السلالي الكاهن أن ما حصل في عدن لوحدها من فوضى وقتل ودمار وتدمير بعد تحررها من الحوثيين، وتحكم الإماراتيين بها منتصف العام 2015م، كان أضعاف مضاعفة مما حصل في حرب 94م عندما فروا منها خائبين، ولاتزال الفوضى والنار مشتعلة في عدن وغيرها من مدن الجنوب حتى اليوم.
 
وتناسى هذا العجوز أن الشمال هو من احتضنه بعد فراره من المطاردة والموت في الجنوب من قبل النظام الحاكم هناك قبل تحقيق الوحدة، ووجد في صنعاء الملاذ والأمن والسكينة التي حُرم منها في عدن.
 
هؤلاء يدافعون عن أنفسهم بمثل هذا الطرح تهربا من مسؤوليتهم في الفشل والإخفاق كنخبة مارست الاسترزاق والمتاجرة بقضية الجنوب والجنوبيين منذ عقدين، وتسكعت طوال تلك الفترة من حضن لآخر، بحثا عن مصالحها، واشباعا لعقدة النقص التي تعاني منها.
 
وهذا التيهان الذي يظهرون به اليوم، هو امتداد لنفس السلوك الذي مارسوه من قبل، ولنفس الحيرة الساكنة في عقولهم، والتي تنعكس على تصرفاتهم، وتعكس تخبطهم، وغياب المشروع لديهم، وفقدانهم لهويتهم، وقفزهم على حقائق تاريخية في مغالطات ساذجة جمعت ما بين حقد الأمس وأمراض اليوم.
 
هؤلاء يجنون على أنفسهم أولا، وهم يقدمون أنفسهم كدمى تتحكم بها أجندة خارجية، وتوجه نواحهم في الوجهة التي تريد، وأثبتوا اليوم بكل وضوح أنهم بكائون حسب الطلب، ومجرد أدوات رخيصة تعمل لصالح المستعمر القديم، والمستعمر الجديد في وقت واحد.
 
 إنها حالة يصعب تفسيرها بالنظر لسلوك هؤلاء، فهي لا ترتبط بشخص واحد، بل باتت توجها واضحا، وهي لا تعبر أيضا عن مزاج متقلب، فحتى المزاج لايكون في القضايا المصيرية والثوابت التاريخية، فالولايات المتحدة الأمريكية التي تعد الحليف الرئيسي والشريك الأهم لبريطانيا لاتزال تحتفل في الرابع من يوليو كل عام بمناسبة استقلالها عن بريطانيا، وكثير من الدول الحليفة لبريطانيا حول العالم تحتفل سنويا بذكرى استقلاها وخصصت يوما وطنيا لتلك المناسبة.
 
أما هؤلاء فلم يسبقهم أحد في تبعيتهم وانبطاحهم وهوانهم، ووصلوا لمرحلة الخواء الكامل من الوطنية، وتجردوا من كل المعاني التي تربطهم بأرضهم وهويتهم وتاريخهم، وظهروا بوجوه سافرة، وعقول ملوثة تعمل خارج سياق التاريخ والجغرافيا، ولم يفعل فعلهم أولئك الذين وصفوهم بأنهم أذناب المستعمر بعد رحيله، والذين حافظوا على قداسة الثورة باعتبارها منجزا شعبيا، وعلى بقاء المستعمر في ذاكرة الشعب باعتباره مبغوضا وجانيا.
 
إن هذا الإرتماء الهابط في وجه بريطانيا من جديد ليس سوى شماعة يعلق عليها هؤلاء فشلهم، ومحاولة لإيجاد كرتا جديدا وشعارا قديما يدغدعون فيه عواطف الناس في الوقت الراهن، عبر العودة إلى ماضي غابر، وإرشيف متهالك، في وقت شبت فيه عقول الناس عن الماضي، وباتت تفرق بين الغث والسمين، وتدرك جيدا من هم هؤلاء، وماذا فعلوا من قبل.
 
إن التنصل من حقائق التاريخ وتضحيات الأجيال في الجنوب، وتمجيد المستعمر، والعودة لاستجدائه بهذا الشكل المهين بات توجها لدى القيادات المنضوية في إطار ما يعرف بالمجلس الانتقالي الذي يحظى بدعم الإمارات منذ تشكله على يدها بعد وصولها عدن لدعم الشرعية.
 
ولا يبدو أن هذه النغمة جاءت من فراغ، بل وفق حسابات مرتبطة بأجندة دولية واضحة، ساهمت الإمارات بتغذيتها وهي المستفيد الأول من هذا الأمر، وانتعش هذا التوجه مع الحضور البريطاني المكثف في الملف اليمني، فهي حاملة القلم فيما يخص اليمن داخل الأمم المتحدة، ووزير خارجيتها أصبح يعمل كمكمل لجهود المبعوث الأممي الذي يحمل هو الآخر الجنسية البريطانية.
 
اليوم تتضح أهداف الإمارات الخفية وعبثها في عدن منذ وصولها، من خلال دعمها للفرز المناطقي بين الشمال والجنوب، ورعاية الكراهية بين مواطني الدولة اليمنية الواحدة، وتغذية الصراع المناطقي في الجنوب نفسه، وتعزيز التمزق في نسيج البلد الواحد، وتعميق الانفصال على الأرض.
 
بل إن ملامح الصورة المستقبلية التي ساهمت الإمارات في رسمها هي إعادة الوضع في اليمن إلى ما قبل مرحلة ثورة الـ26 من سبتمبر 1962م، حينما كان الشمال تحت حكم الكهنوت الديني للائمة، والجنوب تحت الإستعمار البريطاني البغيض، ممزقا ومفككا على هيئة سلطنات ومشيخيات واقطاعيات.
 
ويتكامل المشهد ويتضح أكثر حين يلتقي هؤلاء بهذه الشعارات التي يرفعونها، مع الحوثيين في انقلابهم، ليشكل الطرفين ثنائي متناغم يذهب بعيدا عن القضية اليمنية الراهنة في جوهرها الحقيقي، وينال من الشرعية نفسها التي أضعفتها الإمارات في عدن، وهي تهيئ لهذا الجماعة المهوسة بالماضي، والمشدودة إليه، والغارقة فيه.
 
من المؤسف أن الجنوب الزاخر بالنضال العريق ضد المستعمر يمثله اليوم مثل هؤلاء الذين كانوا على مدى التاريخ القريب سبب تعاسة وشقاء الجنوب وأهله، وجنوا عليه الكثير والكثير، ولديهم القابلية للتحول إلى مطايا في أي وقت، وحقائق التاريخ وأحداثه لاتزال شاهدة عليهم.
 
وحتى الاستثمار من قبل هؤلاء في مرحلة الوحدة واندماج الشطرين في دولة واحدة، وما تخللها من أحداث وتطورات، لم يعد اليوم مجديا، وسرد إدارة علي عبدالله صالح لتلك الفترة والعزف عليها وتسويقها باعتبارها نوع من الظلم لم تعد مقبولة، فالتغيرات التي طرأت على اليمن برمتها، أدت لخلق واقع جديد يختلف كليا عن السابق، ويقتضي معالجات شاملة.
 
وإذا كان هؤلاء يسعون للانفصال حسب زعمهم فلينفصلوا، لكن أن يظهروا بهذا المظهر المهين، وهم ينسفون تاريخ بلد يحتفل مرتين بالعام بذكرى اندلاع الثورة ضد المستعمر البريطاني في 14 اكتوبر 1963 وفي 30 نوفمبر 1967 بخروج آخر جندي بريطاني، فتلك طآمة كبرى لم يفعلها حتى أسوأ الديكتاتوريين وأكثر الأنظمة السياسية بلاهة في العالم.
 
فماذا سيقول هؤلاء لشهداء أكتوبر الذين ضحوا بدمائهم وأراوحهم في سبيل الانعتاق من المستعمر البريطاني لعقود طويلة، وبماذا سيفسرون للجيل الراهن قصائد الشعراء، وأغاني الثوار، وكتابات الأدباء، وحملة الأقلام من الصحفيين في الصحف والمجلات، وهم يقارعون الاستعمار بكل ما أوتوا من قوة، وبمختلف الوسائل، وحافظوا على ما حققوه من انتصار بعد دحر المستعمر ليصبح مصدر فخر للأجيال، وملحمة نضال يستلهمون منها التجربة والدور والأداء.
 
يا هؤلاء.. إذا أردتم أن تغسلوا العار الأول من حياتكم، فلا تغسلوه بعار جديد، واذهبوا بعيدا إلى جحور لا يعرفكم فيها أحد، فهي وحدها تليق بكم.
 

التعليقات