تقول حكاية عربية قديمة إن رجلاً صالحاً مر في سوق وسمع جلبة، وعندما سأل عن السبب قيل له إنه الأمير يقطع يد سارق. مضى الرجل الصالح في طريقه وهو يهز رأسه ويغمغم "سارق السر يقطع يد سارق العلانية". تخبرنا هذه الحكاية بالكثير، حتى إن أي محاولة لشرحها ستسلبها طاقتها الإشارية.
يتابع العالم، بمزيج من القلق والتبجيل، الموجة الثانية من الربيع العربي. وقبل سبعة أعوام كتبت السلطات المصرية على الممرات في مطار القاهرة اقتباسات عالمية تمجد ثورة 25 يناير. حتى أكثر البقع سواداً، فيما يتعلق بالحرية والحقوق، صدرت عنها تعليقات رسمية تمجد الشعوب العربية الثائرة.
الإحساس بالزمن، تقول فرضية علمية، ناتج مباشر عن معايشتنا لأحداثه وتجاربه الجديدة. يصير العام المكتظ بالتجارب الجديدة، المثيرة، أكثر طولاً من عشرة أعوام فارغة. على الصعيد الفردي والجماعي ننظر إلى الخلف، إلى العام 2011، كما لو أننا ننظر إلى ثلثي قرن.
شاهدنا كيف اندفع النظام العربي الكاليبتوكراسي إلى شيطنة الموجة الأولى من الربيع، تلك التي سبق أن كال لها المدائح بوصفها ثورة "أبنائنا الشباب"، كما لو أنها وقعت في ماض غابر ما من أحد يتذكره الآن. ضمن اعترافات لم تنشر جميعها قال مبارك، مؤخراً، إن ما حدث في بلده في العام 2011 كان مؤامرة أميركية بغية الحصول على "حتة أرض" من مصر، وأنه رفض تلك المساومة ودفع ثمن موقفه.
مرت مناسبة الثورة المصرية في يناير/ كانون الثاني الماضي وكأنها حدث سحيق حتى إن أحداً لم يعد يتذكر تفاصيلها بالضبط. إن ثمانية أعوام مرت جلبت معها حمولة تكفي لملء ثمانية عقود، وها هو النظام الكاليبتوكراسي يوغل في شيطنة تلك الموجة، وربما إنكار حدوثها. فقد مضى زمن سحيق منذ تلك الأيام، وفقاً لإحساسنا الحديث بالزمن: وستمر تلك الشيطانات وتصير إلى حقائق. لا يمكن القول إن سعي تلك الأنظمة إلى إلباس الربيع حلة الشيطان لم يفلح، فقد تغيرت الانطباعات والمواقف بدرجة كبيرة.
شاهدنا كيف عاشت الثورتان الأخيرتان، السودانية والجزائرية، عزلة عربية على المستوى الجماهيري، كما لو أنهما تذكراننا بالخطيئة التي ارتكبت في العام 2011. لنتذكر الآن ما جرى في ذلك الزمن السحيق: كانت أيام الربيع العربي، من تونس إلى العراق، شبيهة بالأيام السودانية المعاصرة. وكما تفعل الثورة السودانية أثارت الموجة الأولى من الربيع القدر نفسه، وأكثر، من الإعجاب والدهشة على الصعيد العالمي. حتى إن الصين، الدولة الأوتوقراطية الأكبر، أزالت اسم مصر من على محركات البحث بكل اللغات في محاولة لمنع الموجة المبهرة من دخول أراضيها. الإرهاب والمؤامرات لا تبهر أحداً، غير أن الدعاية التي تقول إن ما حدث كان إرهاباً ومؤامرة قد حققت إقناعاً شعبياً بدرجة ما.
تبرز أهمية الثورتين الراهنتين في إعادة التذكير بالمندثر: الخراب الذي أعقب الموجة الأولى من الربيع العربي وقع عندما قررت الأنظمة العربية استخدام النار في مواجهة احتجاجات سلمية تطالب بدولة مؤسسات وعدالة. ولأجل أن لا يحل خراب مثيل بدول أخرى فعلى الجيوش العربية أن تكف عن مهاجمة شعوبها. أريد لهذا الاستنتاج أن يصبح نهائياً: تبدأ الكارثة بخروج الشعوب المنظم إلى الشوارع. الثورتان الأخيرتان بددتا هذا الاستنتاج، فعندما امتنع الجيش عن مهاجمة شعبه بقيت الكارثة في الخارج.
حدثت الموجة الأولى كصدام مباشر بين الشعوب وأنظمة كاليبتوكراسية، خليط من اللصوص والقراصنة. كان الصدام حتمياً، فقد اختطفت تلك الأنظمة شعوبها حين كان تعداد تلك الشعوب أقل من 50? من حجمها الراهن، وكانت إذاعة واحدة كافية لهندسة الرأي العام وخلق الامتثال المناسب. إن إحساسنا الحديث بالزمن يجعلنا نرى خمسينات القرن الماضي كما لو أنها واقعة خارج التاريخ. اندحرت ثورة 25 يناير، بيد أن المنتصر أحاط نفسه بتكتيكات تعود إلى غابر الأيام. اختبأ في أعماق مدرعة حجبت عنه الحقيقة والزمن.
في الأيام الماضية قالت افتتاحية ل"فايننشال تايمز" إن الأسباب الجوهرية التي صنعت النسخة الأولى من الربيع العربي لا تزال ماثلة، وأن النظام العربي وضع في السنوات الماضية أغطية غير مستقرة على قدور تغلي ببطء. مثل كل الثورات في التاريخ تأتي الموجة الثانية من الربيع: غليان بطيء في الظلام.
ثمة بعد آخر في صناعة اللااستقرار في العالم العربي، فقد قالت دراسة حديثة إن الدول الثرية عادة ما تكون نشطة في الابتكار، إذ أن جزءاً من ثروتها ينفق في الشأن ذاك. الدول الخليجية كانت الاستثناء حيث الثراء الذي لا يفضي إلى الابتكار. تكمن معضلة تلك الدول، تفترض الدراسة، في غياب حكم القانون وسيادة المؤسسة، وينسحب اللابتكار على مستويات عديدة. تلهمنا تلك الدراسة الكثير، فالنظام الذي يسن قانوناً يعاقب بالسجن 15 عاماً ضد تدوينه هو نظام غير قادر على الابتكار، ويعاني من فوضى دماغية خطرة. كما يبدو ذاهباً لتوريط نفسه في معضلات وجودية لن ينقذه منها القول إنه يتعرض لمؤامرة.
كان النظام العربي يقود البلدان إلى الساعة العربية صفر، 2010/2011. فالانتخابات المصرية التي حدثت في خريف 2010 ذهبت أصواتها إلى الحاكم بنسبة 95?. ساهم ذلك النصر ـضمن عوامل غليان عديدةـ في انفجار المشهد في وجه النظام المصري بعد أربعة أشهر فقط. ربما اعتقد النظام العربي إن الشعوب مجرد خرافة. سبق لأحد رجال صالح، الإرياني، أن وصف تطور الديموقراطية في اليمن على هذا النحو: وقعت ثلاثة انتخابات برلمانية، انتقلنا فيها من الأغلبية المريحة إلى الأغلبية الكاسحة ثم الأغلبية الساحقة. آلت هذه الانتصارات الكبيرة إلى حصار النظام، ثم انهياره. ذلك ما حدث في الجزائر، فقد اعتقد النظام العسكري، مثل نظرائه، أن الشعوب خرافة، وقرر الدفع برجل أصيب بالشلل قبل ستة أعوام ليصير رئيساً للجمهورية للمرة الخامسة. إذا كان الفقر وانحسار المستقبل هو من قاد السودانيين إلى الثورة، فقد كان الغضب هو المحرك المركزي للثورة في الجزائر.
اعتاد الناس على تجاهل النظام لهم، غير أن اختيار بوتفليقه للحكم كان رسالة قالت للجزائرين إنهم أصبحوا غير مرئيين. في العام الماضي بلغت نسبة البطالة في الجزائر 12?، مقابل حوالي 20? في السودان. اقتربت نسبة البطالة بين خريجي الجامعات في السودان من 50?، مقابل 27? في الجزائر لدى الفئة نفسها، وفقاً للبيانات رسمية. لنأخذ عاملاً آخر: الأمية. بحسب البيانات التي نشرها الديوان الوطني لمحو الأمية في يناير الماضي فقد انخفضت نسبة الأمية في الجزائر إلى 9.4?.
تبدو الصورة في السودان شديدة الاختلاف، فقد قال المجلس القومي لمحو الأمية في ديسمبر الماضي إن منسوب الأمية في السودان بلغ 17.7% في العام 2018. إذا أخذنا الأمية والبطالة كعاملي "غليان" فسنجد المشكلة السودانية وقد بلغت ضعف حجم المشكلة الجزائرية. شكل الدفع برجل مشلول للفوز بالانتخابات الرئاسية إهانة جسيمة لكبرياء الجزائرين، وقد سبق لأرسطو أن تنبأ بتلك الانفعالات الجماهيرية بالقول "كذلك الاحتقار يولد فتناً وأعمالاً ثورية". بينما كان الجوع والعزلة، وفوق ذلك الإحساس بالعار، هي العناصر التي فجرت أرض السودان.
تختلف المعضلات الوجودية التي يحيط النظام العربي بها نفسه وتتشابه نهاياتها. المنطقة التي تتراوح حيوات سكانها بين القمع المُر والقمع الطيب، كما لاحظت صحيفة "التايمز"، هي منطقة في وضع الغليان ولا يمكن التنبؤ بما سيحدث في غدها. كما لا يمكن حيالها سوى الجزم بحقيقة واحدة، وهي أن أنظمتها غير مستقرة وأن شعوبها في حركة دائمة.
المقالة منشورة في صحيفة الاستقلال