عثرتُ بالصدفة على نص حوار أجرته (الوسط اللندنية) مع الراحل عبدالكريم الإرياني عندما كان وزيرا للخارجية اليمنية.
أجري الحور في 28 سبتمبر 1992م، وكان يتمحور حول ترسيم الحدود بين اليمن وسلطنة عمان، بعد التوقيع على ترسيم الحدود بين البلدين في سبتمبر من نفس العام.
تحدث الإرياني عن الجهود المشتركة للبلدين في قضية الحدود، ورؤية الحكومة اليمنية لها آنذاك، وكيف استطاعت الدولتين التغلب على تلك الإشكالية الممتدة منذ منتصف ستينات القرن الماضي.
تلمس في الحديث استقلال القرار اليمني، دون أي إملاءات خارجية، ودون تدخل من أطراف في المنطقة، كان قرارا يمنيا خالصا، وعكس رؤية ناضجة حينها للعلاقة بين البلدين، وعكس أيضا مستوى امتلاك اليمن لقراره السيادي والسياسي، ونجح في التغلب على التدخل الخارجي الذي حاول أن يفرض نمط معين على التفاهم حول الحدود.
في تلك الأيام أرسل الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب رسالة لسلطنة عمان، وأخرى للجمهورية اليمنية أكد فيها أن مشاكل الحدود لا يمكن حلها إلا بالطرق السلمية، وعبر الأخذ بواحد من الخيارات الأربعة: التحكيم أو التفاوض أو الوساطة أو المحاكمة في محكمة العدل الدولية، كما عبرت المذكرة الأميركية عن قلق الإدارة الأميركية من احتمال نشوب نزاع حول الحدود بما يمس أمن وسلامة مواطني الدول الأخرى.
يقول الإرياني في الحوار إن البلدين أخذا بخيار التفاوض، وتغلبوا على الإشكاليات التاريخية والجغرافية في ترسيم الحدود بين البلدين.
عندما تقرأ الحوار اليوم تشعر بالحزن والعار والقهر للمستوى الذي وصلت إليه السيادة اليمنية، التي لم تعد تمتلك أمرها قرارها، وتحولت إلى دمية بيد السعودية توجهها في الوجهة التي تريد.
لم يعد لليمن اليوم سيادة على قراره، ولا يملك بل ولا يستطيع اتخاذ القرارات الحتمية والمصيرية، عندما وضع كل شيء في سلة السعودية، التي تتحكم اليوم في كل شيء، وباتت تمارس الانتهاكات داخل الأراضي اليمنية، وما يجري في المهرة اليوم أكبر شاهد على فقدان اليمن لسيادته، وهيمنة السعودية على القرار السيادي اليمني.
بقاء الحكومة والرئاسة في الرياض يجعلها عاجزة عن اتخاذ أي قرار، وارتهانها للسعودية يزيد من ضعفها وبالتالي زيادة هيمنة الرياض على كل شيء.
ربما يقول قائل إن السعودية تواجه خطرا كبيرا كإيران وتوحد اليمن خلفها لمواجهة هذا العدو أمرا ضروريا باعتباره خطرا مشتركا للبلدين.
هذا القول في ظاهره نوع من العاطفة التي يمكن أن يبرر بها البعض لأنفسهم هذا الوضع، لكن في حقيقته هو أمر خطير على اليمن اولا، فبإمكان اليمن أن يكون شريكا في مثل هذه المواقف والتحديات لجيرانه وأشقائه، ولكن في إطار سيادة اليمن وامتلاكه لقراره، مثله مثل أي دولة أخرى حليفة للرياض كمصر مثلا.
استمرار الوضع بهذا الشكل ستكون له كلفة كبيرة في المستقبل على الدولة اليمنية، التي يترسخ اليوم تفكيكها، وتفقدا يوما بعد آخر مكانتها، ولم يعد لها من قرار سوى إصدار بيانات التعاطف والتضامن من الرياض.
والكلفة الأكبر ستكون من نصيب الأجيال اليمنية القادمة التي ستشعر بالعار جراء التفريط الذي تقوم به الحكومة اليمنية الآن لثوابتها وقرارها، وتحولها لدمية بيد دولة خارجية، نجحت في إذابتها، وتشكيل حكومة من نمط خاص لضمان بقائها تحت الوصاية، وضمان استمرار هيمنتها وأجندتها.
من حسن الحظ أن الملفات الشائكة التي ربطت اليمن بجيرانه تم حلها مبكرا كمسألة الحدود مع الجيران، بغض النظر عن طبيعة تلك الإتفاقيات، أو الحيثيات التي استندت لها عند تسوية الحدود.
ولو ظلت هذه القضية مفتوحة حتى اليوم في ظل الضعف والهشاشة التي توصف بها الحكومة اليمنية الحالية، كانت ستتحول إلى ورقة خارجية منتهكة كغيرها من القضايا الماثلة اليوم، حيث تحضر الحكومة شكليا، ناهيك أنها تعمل لمصلحة الرياض أكثر من مصلحة الوطن اليمني.
وللعلم مسألة الحدود بالنسبة إلى الجمهورية اليمنية بدأت عندما قوي عود النظام السياسي، وقويت مداميك الدولة، ولذلك مثلت قضية الحدود أولوية في دولة الوحدة بعد تحقيقها في الثاني والعشرين من مايو 1990م ، وأعلن رئيس الوزراء اليمني الأسبق حيدر أبو بكر العطاس، في أول بيان لحكومة الوحدة، عن استعداد صنعاء لإنهاء قضايا الحدود، وبدأت الحكومة وقتها بتسوية هذه الملفات مع الجيران، بدء من سلطنة عمان ثم المملكة العربية السعودية.
هذا يشير إلى أن وجود دولة يمنية مستقرة بحكومة وطنية مخلصة لديها قرارها السيادي الخاص سيجعل من اليمن معادلة مهمة في المنطقة، وهو ما تخشاه اليوم السعودية التي تثبت ممارساتها أن من مصلحتها بقاء الحكومة الحالية في طور الضعف، وغير قادرة على فرض وجودها داخل البلد، وتعاني من إرادة مسلوبة على مستوى القرار والجغرافيا.
وأنى لحكومة (رئاسة - وزراء – أحزاب - نواب) يمول جيشها وموظفيها وميزانيتها من دولة أخرى، وتقيم في ذات الدولة أن تمتلك قرارها، أو يكون لها سيادة وطنية.