سأعتاد من اللحظة الإجابة على سؤال ما إذا كنت أعمل في منظمة، يلتحق كثيرون بالعمل في الإغاثة وهم أبرز زبائن سيارات الأجرة، فيما البقية يتراصون في الباصات أو يرددون عبارة عدن الشهيرة "معك على الماشي؟" .
لم تتمكن قذائف الحوثيين من محو قيم عدن وقتل روح التعاون الذي أخبرني عنه أبي قبل عقود، بينما كان يجمع أيادي أصدقائه في قريتنا النائية لإقامة جدار يحرس بيتنا، وقد توصل الى جوهر التعاون يوم كان آخر جندي بريطاني يحزم حقيبته ويجمع الفتى الذي سيصبح والدي متاعه للسفر الى صنعاء، مدافعا عن الدولة الجديدة صاعدا الى سيارات نقل كبيرة كانت تجوب شوارع عدن وتجمع الحماس من صفحات جريدة " صوت اليمن " وتلقيه في شوارع صنعاء فتية يدافعون عن قضيتهم الجديدة.
أكنت تعلم أن ابنك بعد ستين حولا سيبحث عن ما دافعت عنه بكل عمرك.
أنا الآن في عدن وأبحث عن ما أضاعه اليمنيون وأكرر الحلم القديم.
وأرى وجوهاً جديدة لا تستمد حماسها من صحيفة بل من كتاب.
في صباح اليوم التالي كنت قد أيقظت الشمس وخرجت أجري مسرعا الى البحر، متحررا من كل خوف فقد نسيت سنوات الغياب واستعدت ذلك الطفل القادم للعمل في محل خاله بالمعلا.
في تلك الأثناء طرت أجمع إجازاتي القديمة، وأبحث عن المحل الخشبي الذي عملت فيه بائعا لملابس العيد ولما قلت لسائق التاكسي أريد سينما المعلا أعاد النظر نحو وجهي وهو يقلب كفيه " ممكن نسأل حد من سكان المعلا القدامى"
هل أصبحت قديما يا عدن إلى هذا الحد؟!
يا لقسوتك.. أراك تلك المدينة الفتية وترين في الماضي أنظرك مستقبلا وتعدينني ماضيا .
وبالفعل لم يعرف مكان السينما غير كبار السن، وكانوا قد اجتمعوا جوار سيارة الأجرة يبصرون نحو المقعد الذي يشغله من يبحث عن باب أغلق حين كان السواد يغطي رؤوسهم والنور يشع جنبات المدينة.
قال أحدهم " باين عليك قديم ".
يخبروننا أنها جوار سوق القات المركزي تم غزو السينما، وفتحت ثغرات على جدرانها وآخر فيلم عرض فيها قبل أزيد من عقدين
وهي الآن بوابات لمحلات تجارية، هيكلا ضخما بأقدام نحيلة.
الغريب أن المحل الخشبي الذي قضيت فيه إجازاتي الدراسية ذات يوم مازال كما هو ونوع الأقمشة لم تتغير حتى المفردات التي كنت أقولها للزبائن لا تزال حاضرة وابن ابن خالي يخبرهم بما كنت أخبرهم عن الجودة وعن بلد المنشأ وعن معاناة الوصول.
لم تتغير ملامحه كثيرا حين كشفت له عن اسمي، لم نرى بعضنا من قبل، فرقنا طلب الرزق، ثم وهم النجاة و لا يبدو الأمر بالغ الأهمية، وقد انطفأت داخلي شمعة وما قيمة الشموع حين تقف تحت الشمس وتقول لأقارب تؤوب إليهم أنا أخو عمار.
لا ذكريات مشتركة نسردها، لا شخصيات كثيرة تلمنا، جمعتنا فقط صلة قرابة منحتني فارقا بسيطا مع زوار المحل الخشبي.
قريب لي لا أجد ما أحدثه عنه
قلّت الوجوه التي أعرفها وكثرت التي لا أعرفها والتي يقول لي حاملوها إنهم يعرفون أخواتي الأصغر، فبينما كانوا يكبرون كنت قد غادرت وذهبت الى المدينة التي سافر أبي لحمايتها بالقليل من الثياب وبندقية كبرنا على رؤيتها تتدلى صدر غرفتنا الكبيرة وتحوم حولها القصص.
حضوري الآن لا يعني أنني قد صرت من عصرهم بل من العهد القديم " باين عليك قديم " .
جاء خالي باحثا عن إجابات وبدأت الأواصر تعود ولأنه أراد التباهي بزياراتي عند من يعرفهم من الزبائن كان يتحدث إليهم أكثر مني، المشتركات بينهم أكثر.
قال لأحد الزبائن هذا بن اختي مريم "ومن يعرف مريم هنا" جاء من تركيا، فردد الرجل وهو يبحث عن مراد علمدار ومهند في ملامحي "تركيا، تركيا"، ثم أخذ يشير نحو العام 1548 حين فرت البرتغال ورست السفن العثمانية وأطل منها سليمان القانوني وجنده ولاح تاريخ لن أسير إليه ولا يبدو أن من أشار نحو رصيف ميناء المعلا يعرفه.
لم يجد فارقا يذكر بين القادمين من جبال ريف تعز وهذا الذي يقول إنه أَتَى من ضفاف البسفور.
" ايش رجعك هذي البلاد "
أحببت أن أتخلص من مسؤولية العودة من بلد يمثل نموذجا في كل شيء لافت.
فقلت له إن خالي يمزح "قد انا اقول انت مش مجنون بترجع من هناك لهنا"!.
تحيط المحلات الخشبية السينما ويحتلق الزبائن حول بسام القادم من ريف إب والجميع يرددون اسمه حتى أنا قلت بسام ولم أرد منه شيئا، أردت أن أكون هم فقط.
سبق للكاتب محمود ياسين الكتابة عن تصنيف عدن للناس، وبالفعل كما ذهب إنها تصنفهم الى تجار وحمالين ومشترين.
ما زال التصنيف متماسكا فلم يعد رائجا في عدن ألفاظ العنصرية، وفقا للجهة التي أتيت منها كما كان قبل سنوات، تعلم الناس من الحرب ما لم يتعلموه من السلم كما أخبرني سعيد الصلوي، وهو طالب ماجستير في جامعة عدن التي يسكن جوارها في غرفة لا يغلق بابها أمام الأسئلة.
كان إلهنا القديم يتوسط السماء
ويمنحك شعوراً أنك في أقرب مدينة إليه وحين رأيت بابا مفتوحا يجلس خلفه شاب يقظ الملامح استنجدت به " هل أجد بيتاً للإيجار؟" .
سحبت الكلمات نفسها، وتغير الحديث من تحديد البيت وموقعه الى الحديث عن البيت الكبير اليمن، وقد راقني وجود ظل، ووجدت نفسي أجلس مع مجموعة من طلاب الجامعة القادمين من مناطق بعيدة.
وحين كان يلمح قلقي يعود ليطمئنني "مالك إلا بيت " .
تحدث سعيد عن الأيام الأخيرة للحزب الاشتراكي في الحديدة.
قال إنه نسب الكثير الى العضوية وقادهم الى مقر الحزب الذي يسيطر عليه الحوثيون الآن.
أما من انتسبوا فقد اختفت أخبارهم وفر سعيد بلا هوية ولا رفاق الى عدن.
وكان فتى قادم من جبال الصلو الشاهقة قبل يومين مبهور بما يقول سعيد ومؤمن بكل ما يذهب إليه.
منذ وصوله بعث إليه سعيد إلكترونيا كتباً يطالعها ويناقشه في أفكارها .
كنت اعتقدت أن هذا الصنف من الناس قد اختفى، لكنهم مازالوا على الأرض وسعيد الذي لا يمتلك غير صفة الطالب يوزع الأمل لكل القادمين، ويقول إنه يرفع لهم الوعي وفي المساء يتذكر أنه لم يتناول طعامه وربما لا يمتلك ما يجلب الطعام.
كان الوقت يتسرب من يدي وأنا أستمع للمستقبل الذي يخطه مجموعة من طلاب في غرفة بابها الحديدي الأحمر هو نافذتهم الوحيدة نحو الشارع وتجاه الغد.
فشل سعيد في مساعدتي بالحصول على مسكن، لكنه نجح في منح الأمان ووضع ملاحظته القيمة ( هناك القليل من العنصرية داخل سور الجامعة تختفي خارج السور ) بدأت الوحدة قديما من الجامعات والجمعيات والاتحادات قبل أن تخرج الى الجماهير وما يحدث الآن العكس تماما.
تتخلى النخب عن المشاريع الكبيرة فيتلقفها الناس في دروبهم.
وفي كل محل وسوق ومقهى جلست إليه ما أحسست بجدار يفصلني عن باقي مدن الشمال وأخبار تقدم الجيش تدور بين الجالسين الذين يرون العدو جيدا.
" لو ما هزمناهم بيرجعوا " قال رجل وهو يريني آخر نقطة خلع عندها بندقيته قال: "كاوشناهم حتى إنماء ومن هناك استلم غيرنا المهمة قسمناها مربعات "
إنها ذات الآلية التي يقاتل بها الحوثيون وهي ما يهزمهم أيضا.
لكن المربعات لم تكن وحدها، تحمل المباني آثار قصف الطيران وتشير أصابع الذين يلمحون دهشتك نحو المباني المدمرة جزئيا، هنا كان يختبئ ثلاثة قناصين قبل أن تحطمهم البوارج أو السماء .
هبط كَباتنُ الطائرات وساروا على الأرض، لكنهم لم يفكروا بإعادة الإعمار، وكأن حربا لا تزال تحوم في الرؤوس.
انتظر ملاك بنايات خاصة أن يعاد ترميم ممتلكاتهم، لكنهم ملوا فأصلحوا جروحهم ونسوا الأسباب، فيما تركت المباني العامة للعبرة وربما للذكرى، جامعة بلا بريد وهناك حالة يأس من أن أحدا سيبعث رسالة الى جامعة عدن أو سيسدد رسوماً، وإلا ما معنى أن يترك مبنى بريد الجامعة مدمرا يسوره الإحباط وأكوام القمامة وتحلق الغربان أعلى منه طوال النهار قبل أن تحل فيه ليلا.
وصولا الى شاليهات ساحل العروسة، وهي مبانٍ لم تقصف إنما تم تخريبها كما أكدت الجدران وقال الزوار. تم نهب كل شيء بعد أن توقفت الحرب خرج عشاق الأثاث المجاني وفي طريق عودتهم أطلقوا النار وقتلوا النوافذ المطلة على البحر.
بالقرب من العروسة يقيم عيدروس الزبيدي وهو أحد الذين واجهوا مليشيا الحوثي في الضالع وردفان وحظي لوقت طويل بتقدير.
يعيش الزبيدي في منزل المحافظ ويرفض مغادرته وبالمقابل منه قيادة المنطقة العسكرية الرابعة وبالكاد يميز الأهالي بين أصحاب عيدروس وأصحاب الرئيس هادي، وبالمناسبة الزبيدي أصبح رئيسا، كما تقول لوحات ضخمة وأنصاره منذ إقالته من منصب المحافظ.
يسكن المحافظ الجديد في بيته وهو ايضا ابن رئيس ميزته أن حربا لن تشتعل عقب قرار إقالته فالرجل تولى مهامه ولديه منزل ولم ينتظر طويلا مغادرة عيدروس، على الحكومة التفكير بالبيت قبل القرارات.
وشخصيا لمست حقيقة الأزمة وأنا أبحث عن مسكن في عدن وأفكر ببيت المحافظ.
يطل عيدروس على ساحل نقي ترى الأسماك بوضوح وقد تحولت هناك الى سباح يجيد الابتعاد عن الشاطئ كلما اقترب السائرون فيه، وكلما رأيت لوحة ضخمة تحمل صورة العشرة.. يتبع
* نقلا من صفحة الكاتب على الفيسبوك