كنا في الليالي الطويلة وفي المنتديات الثقافية والسياسية في الأعوام السابقة نتحدث كثيرا عن الشخصيات الوطنية، كان هذا مرافقا لحديث عن مدى هشاشة الأحزاب السياسية، لا تعمل الأحزاب منذ مدة على صناعة شخصيات مهمة يمكن أن تكون رموزا قادمة، حزب الإصلاح لم يستطع بناء شخصية واحدة تحظى بقبول واسع لدى الجماهير والنخب السياسية، فهذا الحزب عبارة عن كتلة كبيرة يضيع بداخلها حتى الأشخاص المميزون.
في تلك الأحاديث كان علي عشال اسما بارزا بالنسبة لنا، وربما كان في تصورنا أنه شخص يمكن أن يصبح رئيسا قادما لليمن، كاريزميته وانتماؤه الجنوبي وأشياء أخرى كثيرة يمكنها أن تصنع منه قائدا سياسيا لليمن، لكن الحزب الذي ينتمي إليه عشال وهو الإصلاح يتمتع بقدر قليل من الذكاء السياسي لا يؤهله لاكتشاف الشخصيات المهمة داخل تنظيمه، حتى وإن اكتشفها فهو لا يعمل على تنميتها والترويج لها.
ـ التجربة التونسية وتجارب أخرى
في المقابلة التي عقدت مع مرشح الرئاسة التونسي قيس سعيّد بعد حصوله على أعلى نسبة في التصويت بين مرشحي الرئاسة في الجولة الأولى، قال إن زمن الأحزاب قد ولى.
كانت الحملة الانتخابية لقيس سعيد ذات إمكانيات بسيطة جدا.. بالنسبة لنا كانت هذه مفاجأة كبيرة، كنا نعتقد أن الأحزاب السياسية أقوى من هذا المرشح المعزول القادم من حقل القانون واللغة، والذي اختار "الشعب يريد" شعارا لحملته الانتخابية.. صورة المواطن العضو داخل البنية الحزبية بدأت تتلاشى، وكانت الخبرة التي يتمتع بها قيس كافية لإقناع الشعب التونسي بنسيان تلك العباءات الحزبية الكبيرة، والتصويت له.
في إيطاليا أيضا اكتسحت حركة "خمسة نجوم" صناديق الاقتراع في 2018 وكان قد أسسها الممثل الكوميدي غريللو.. قدمت هذه الحركة نفسها كمناهضة للنخب السياسية التقليدية وخارج دائرتها، واستطاعت هزيمتها في الانتخابات.
في أوكرانيا أيضا فضل الشعب انتخاب ممثل كوميدي ضاربا بتجربة الأحزاب السياسية عرض الحائط.. هذا ليس إعلاما بانتهاء زمن الأحزاب السياسية، لكنه يمكن أن يكون بدء زمن الفرد القادر على إقناع الجماهير بأهمية المشروع والموقف الفردي، لأن وعي الحراك الشعبي أصبح متقدما عن وعي النخبة السياسية المعزولة، والتي لا تملك الخيال الكافي لقراءة المتغيرات الاجتماعية والسياسية.
الدروس التي يقدمها لنا التونسيون والعالم علينا أن نفكر فيها كثيرا.. كانت الثورة التي اندلعت من هناك درسا لنا في اليمن، ولتكن أيضا هذه الرغبة الشعبية في تجاوز الأحزاب درسا آخر.
هذه متغيرات السنوات الأخيرة، ويمكن أن تقرأها في أكثر من بلد إن شئت.. هذه المتغيرات يجب أن نقرأها من باب التحولات السياسية والفكرية، وأن عصر اللا انتماء السياسي قد بدأ.
لقد بلغ الشعب سن الرشد وستدرك النخب الحزبية هذا الشيء عندما يفوت الوقت.
إنك يا عشال يمكن أن تكون أكبر من دون الإصلاح، لأن معادلة الشعوب تفرض اليوم نفسها بقوة، عليك استشراف المستقبل والثقة بما يمكن أن يحققه الشعب، الشعب الذي لم يعد يرى في الأحزاب قدرة على تحقيق آماله، إن لم يكن قد فقد ثقته نهائيا بها في إحداث أي تغيير أو التقدم خطوة إلى الأمام.
منذ ثورة فبراير وكل الأحزاب السياسية اليمنية تخسر على مستويات عدة، الإصلاح يخسر كما يخسر الاشتراكي والناصري والبعثي، لكننا لا نملك دراسات دقيقة عن مدى هذه الخسائر الشعبية التي مُنيت بها الأحزاب.
قد تكون أكبر من الإصلاح بالنسبة للناس كما كان قيس سعيد أكبر من حزب النهضة والتجمع الدستوري وحزب الخضر وحزب العمال الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وبقية الأحزاب الأخرى، وبإمكانك اتخاذ دور في الحياة السياسية أكبر من كونك ترسا في تلك الماكينة الحزبية الثقيلة التي قد لا ترى فيك أكثر من كونك نائبا برلمانيا يصوت لصالح الكتلة الحزبية.. يمكنك بقدراتك ومواقفك أن تكون أكبر من ذلك البرلماني الذي لا قد لا يؤخذ برأيه في كثير من الأوقات.
هذا لا يعني بالضرورة مغادرة الحزب الذي تنتمي إليه، بل يعني أن تكون مواقفك شجاعة وخارجة عن جلباب الحزب الذي تنتمي إليه.