"اليمن" كمشكلة سعودية
السبت, 02 نوفمبر, 2019 - 09:30 مساءً

بعد خمسة أعوام من دعم المملكة العربية السعودية للملكيين في اليمن الذين سقط نظام حكمهم في الـ26 من سبتمبر 1962م وقف الملك السعودي فيصل بن عبدالعزيز أمام جموع من الحجاج متحدثا عن حرب اليمن.
 
خاطب الملك السعودي الذي دعم الملكيين بالمال والسلاح الحجاج باعتبارهم المسلمين، وطالبهم بأن يكونوا شهداء على موقف بلاده من الحرب في اليمن، والتي اعتبر بأنها فرضت عليهم، ولم يسعون لها، ووصفها بالقول "مشكلة اليمن".
 
تحدث الملك "فيصل" بلغة تتسق مع التوجه الديني الذي امتازت به السعودية آنذاك، وقال مخاطبا الحجيج: " اشهدا لله واشهدكم باننا ليس لنا أي غرض أو مطمع أو هدف في اليمن، ولا أن تستمر الدماء تسفك بين الأخوة والأصحاب وبين ذوي الرحم والعقيدة الواحدة".
 
في ذات الخطاب قدم الملك "فيصل" رؤيته للحل في اليمن، وهي انسحاب القوات المصرية من اليمن، ومن ثم انسحاب قوات بلاده إلى حدود المملكة، ويترك لليمنيين كما جاء في خطبته: " حل أمورهم بانفسهم، وتقرير مصيرهم بأنفسهم، دون أي تدخل لا منا، ولا من اخواننا في مصر، أو أي طرف كان، واذا وافق المصريين على الانسحاب من اليمن نعاهد لله ونعاهدكم أن لا نتدخل في اليمن لا في قليل أو كثير ونترك لأخواننا في اليمن تقرير المصير أو النظام أو الشكل أو الدولة بدون تدخل مننا أو سوانا".
 
جاء ذلك الخطاب بعد سنوات من الحرب دعمت فيها السعودية النظام الملكي البائد في اليمن بالمال الوافر والسلاح الحديث بغية الإجهاز على الجمهورية الوليدة في اليمن، ومنع قيام نظام حكم جمهوري في جنوب المملكة، ودخلت السعودية حينها في معركة تحد مصيرية مع نظام جمال عبدالناصر الذي قدم من جانبه كل الدعم لأنصار الجمهورية في صنعاء.
 
كانت الحرب السعودية حين اندلعت نصرة للملكيين مغلفة بغلاف ديني، ورفع خلالها العديد من الشعارات الدينية باعتبارها حربا مقدسة، ولكن مع استمرار تلك الحرب، وصعوبة تحقيق نصر للسعودية في اليمن والخسائر الي تكبدتها ارتفعت الأصوات المطالبة بايقافها، وقدمت السعودية من جديد قرار وقف الحرب باعتباره أيضا انتصارا لحرمة الدم المسلم، واستجابة لتعاليم الدين.
 
ففي ذات الخطبة للملك فيصل قال مخاطبا الحجاج: " أيها الأخوة المسلمون... الأخ يقتل أخاه والحرمات تنتهك من الجانبين، وهي مأساة  يجب أن يوضع لها حد، ويجب أن توقف لوجه الله سبحانه وتعالى، ثم لحرمة الإسلام والأخوة العربية والمصالح المشتركة".
 
إنها ذات الصورة التي تتكرر اليوم، فالقضية اليمنية في الوقت الراهن يجري تصويرها كحرب بين السعودية وإيران، في مقابل السعودية ومصر سابقا، وتطالب الرياض طهران برفع يدها من اليمن مقابل وقف الحرب، كما طالبت من قبل مصر بسحب قواتها من اليمن، مقابل وقف الحرب، ومثلما قررت السعودية شن الحرب في اليمن معتبرة ذلك انتصارا للعرب والإسلام، فستأتي اللحظة التي تعتبر وقفها إنتصارا للعرب والمسلمين أيضا.
 
ظلت السعودية منذ تلك الحرب حريصة على أمرين إثنين، الأول وضع اليمن في الوصاية غير المباشرة، والثاني منع تكرار ظهور نظام مصري قوي يمكن أن يمثل ثقلا في المنطقة، ويستطيع دعم وتشجيع الحركات التحررية في الوطن العربي على غرار ما فعله جمال عبدالناصر إبان فترة الستينات من القرن الماضي.
 
أما الفارق اليوم فيتمثل باختلاف كلي بين من تدعمهم السعودية حاليا، وبين من دعمتهم بالأمس، ففي حين تمتع أنصار الجمهورية الذين كانوا خصوما للرياض عقب الثورة السبتمبرية بالأرض ووجودهم داخل اليمن الأمر الذي وفر لهم مقومات الصمود والقوة، يفقد الطرف اليمني الذي تسانده السعودية اليوم عوامل الثبات جراء تواجده الكامل كحكومة ورئاسة داخل السعودية، وهو وضع تستفيد منه الرياض بشكل كبير.
 
اليوم تقدم السعودية اليمن كمشكلة خاص بها، وليس مشكلة يمنية تهم اليمنيين في المقام الأول، وسلكت هذه السياسة منذ العام 2011م حينما انطلقت الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام صالح، من خلال المبادرة الخليجية التي تبنتها وجرى التوقيع عليها في الرياض، ثم من خلال تفجير الحرب في اليمن باعتبارها جاءت بطلب من الرئيس هادي، ثم بتحول الرياض إلى مكان مفضل للحكومة الشرعية، التي تتدخل السعودية في أعمالها، ثم أخيرا بالإتفاقات التي تبرمها الرياض وتقدمها جاهزة طالبة من الحكومة التوقيع عليها.
 
تبدو السعودية اليوم هي الوصية على اليمن بشكل كامل، وهي من تنسج خيوط اللعبة، ومن يرسم شكل المستقبل لهذا البلد الذي لسوء حظه لديه جارا ثريا إسمه "السعودية".
 
لاترغب السعودية بتضييع فرصة وضع اليمن تحت البند السابع، وتسعى من خلال ذلك إلى تحقيق أجندتها وخدمة مصلحتها في المقام الأول، وبما يضمن تقديم حل لليمن كـ"مشكلة" مؤرقة لها من شأنه وضع اليمن في إبطها لعقود قادمة.
 
ومثلما تولى الملك "فيصل" ملف اليمن في السابق باعتباره القضية الأهم، يضطلع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بهذه المهمة في الوقت الراهن، واضعا كل ثقله لتحقيق نصر في اليمن، إما عن طريق الحرب التي فشلت حتى اللحظة، أو عن طريق فرض الاتفاقات التي تُقدم باعتبارها انعكاسا لسياسة السلم والسلام التي يتمتع بها الأمير السعودي.
 
فخلال الأسبوعين الماضيين ألقى بن سلمان كامل وزنه لإقناع الرئيس هادي التوقيع على اتفاق مع المجلس الإنتقالي المدعوم من دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي سبق للحكومة الشرعية اعتباره متمردا ومناهضا لها.
 
تشبث المسؤولين في الحكومة الشرعية بموقفهم الرافض للتوقيع مع المجلس الإنتقالي، لكن السفير السعودي محمد آل جابر هددهم بالتوقيع الإختياري ما لم فسيوقعون قسرا، قائلا إن التوجه نحو توقيع الإتفاق يأتي تنفيذا لتوجيهات ولي العهد محمد بن سلمان.
 
لم تقدم اليوم الرياض الحل في اليمن كما يفترض، على الأقل استنادا لمرجعيات واضحة كان للرياض نفسها دورا كبيرا طوال السنوات الماضية في انجاحها، ولايبدو أنها ترغب بحل كهذا يستند لإطارات إقليمية ودولية، بل تواصل سياستها في اليمن كما يحلو لها، بعيدا حتى عن كل الدول التي لها علاقة باليمن، وبدا اليمن برمته كما لو أنه مشكلة سعودية في المقام الأول، وللرياض كامل الحق في هندسته كما تشاء.
 
بالتأكيد ستمل السعودية الحرب في اليمن كما ملها قادتها الأوائل، وستندفع نحو الحلول التي تجنبها الإرهاق والغرق في مستنقع اليمن، لكن ذلك لا يبدو أن آوانه قد حان، فلاتزال السعودية عاجزة عن حلول فعلية من شأنها ترك مصير اليمن لليمنيين أنفسهم أو على الأقل إيجاد حلا يتناسب مع قضيتهم الراهنة، وما تقدمه السعودية اليوم من حلول ليس سوى بذور جديدة للصراع في الحقل اليمني الملتهب والموجوع بما يجعله يغرق أكثر في الفوضى والعنف، وذلك هو ربح الرياض ومصلحتها.
 
إن حل اليمن كـ"مشكلة" بالنسبة للسعودية اليوم هي قيام نظام يمني بمواصفات خاصة يحقق للسعودية ما تريد في اليمن، ويكفيها شر الحرب وعبء هذا البلد، وهو نظام لم تعثر عليه حتى اللحظة في كل الشخصيات اليمنية التي تتعاون معها الآن، وكل المخاضات الجارية تهدف لخلق هذا النظام، وتهيئ لولادته، ليعمل لصالحها، ويبقى في دائرتها، ويرتهن لرغبتها كما هو الحال بالنسبة لدول أخرى كالبحرين ومصر على سبيل المثال.
 

التعليقات