تروي حكاية فرنسية أن امرأة اسمها أزورا ذهبت لتعزي أرملة شابة فقدت زوجها منذ يومين، وكانت هذه الأرملة قد عاهدت الآلهة أثناء حزنها على أن تقيم على هذا القبر ما جرى ماء هذا الجدول قريبا منه. ولكن منذ مات زوجها انشغل بالها في كيفية تحويل هذا الجدول عن مجراه، حتى يتسنى لها بدء حياة أخرى وحب جديد.
بعد مدة مضت أزورا عند إحدى صديقاتها في الريف يومين ثم عادت في اليوم الثالث إلى دارها، وهنالك أخبرها الخدم أن زوجها قد مات فجأة في ليلة سفرها، وأنهم لم يتجرؤوا على إبلاغها بالفاجعة حيث كانت تستجم، وأنهم قد فرغوا الآن من دفنه في قبر أسرته، هناك في طرف الحديقة. فأجهشت بالبكاء، وأقسمت أن تموت إلى جواره. فلما كان المساء استأذنها صديق لزوجها اسمه كادورا في أن يتحدث إليها فبكيا معا، فلما كان الغد بكيا أقل ما بكيا أمس وجلسا معا.
ثم أسر إليها كادورا أن صديقه أوصى إليه بمعظم ثروته، تم لمّح لها بأنه يرى السعادة في أن يقاسمها ثروته. هنالك بكت السيدة ثم غضبت، ثم لانت، وكان الحديث أدنى إلى الثقة، وأثنت أزورا على الفقيد، ولكنها اعترفت بأنه لم يخلُ من بعض العيوب التي بريء منها كادور. وفي أثناء العشاء شكا ?ادورا ألما عنيفا في كبده، فقلقت أزورا لذلك، وأحضرت كل ما كان عندها من طيب، لعلها تستطيع شفاءه.
لمست أزورا من كبد كادورا، وقالت له: ما بك؟ قال: إنه ألم يُدنيني كل يوم من القبر، وليس له فيما علمت إلا دواء واحد يمكنه شفائي، وهو أن يوضع على مكان الألم أنف رجل مقطوع لا زال طريا في موته. قالت أزورا: يا له من دواء غريب. فكرت أزورا كثيرا ثم أخذت السكين ومضت إلى قبر زوجها تريد أن تقطع أنفه. عند ذلك نهض الزوج من القبر، قائلا لها: ألم تكن تلك المرأة التي فكرت بتحويل الجدول أفضل من المرأة التي تفكر بقطع أنفه لشفاء عشيقها.
هذه القصة أوردها الكاتب الفرنسي والروائي والفيلسوف فولتير قبل ثلاثمائة عام تقريبا في روايته القدر، لكنني سمعت هذه القصة مرات أخرى وبصيغ عديدة، فقد أوردها الكاتب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابه النظرات وجعلها في مقدمة الكتاب، قرأت تلك القصة حين كنت في السادسة عشرة من عمري في مكتبة المدرسة حين كنت أهرب من حصة الكيمياء وأتسلل إلى المكتبة التي دُمرت بعد ذلك بفعل الحروب الطويلة التي دارت في المدينة، فقد اخترقت المكتبة قذيفة مدفعية من المكان الذي كنت أجلس فيه باستمرار، ولو قدر لي أن أكون حتى الآن في تلك المدرسة لكانت القذيفة قد نثرت أجزاء جمجمتي على الطاولات المجاورة.
المنفلوطي أورد القصة باختلافات معينة، فدماغ الميت هو الذي كان سببا لبرء عشيق المرأة الجديد، وأن حكيما من الحكماء أراد امتحان وفاء زوجته التي كان يحبها كثيرا، فقد عاد إلى منزله وبيده مروحة يدوية بيضاء مطرزة بخيوط ذهبية من تلك التي يصنعها أهالي القرية، وعندما سألته امرأته عن هذه المروحة قال إنه رأى أثناء عودته امرأة كانت تجلس إلى قبر في المقبرة المجاورة، وقد أهدته هذه المروحة لأنها كانت قد وعدت زوجها بأنها لن تتزوج ثانية حتى يجف قبره، وقد توفي زوجها منذ ثلاثة أيام وهي تحاول الآن تجفيف القبر حتى يتسنى لها الزواج مرة أخرى.
بعد ذلك بعام مرض الحكيم مرضا شديدا وعجز الأطباء عن شفائه وحين أشرف على الموت ذكر زوجته بعهدها الذي قطعته بأنها لن تتزوج بعده رجلا آخر، وقد مات الرجل عند حلول الليل، وأثناء تجهيز مراسيم الدفن خلت المرأة إلى نفسها وظلت تبكي وحيدة فقالت لها الخادمة إن هناك فتى من تلاميذ زوجها جاء من مكان بعيد، وعندما علم بخبر موته مرض مرضا شديدا، وعندما ذهبت السيدة لرؤيته رأت حتى ذلك الوقت أجمل فتى في حياتها، فأحبته وعرضت عليه الزواج، فقال لها إنني لا أستطيع لأن حياتي قصيرة جدا، والأطباء قد أنذروني بدنو أجلي، إلا أن أكلت دماغ ميت توفي من يومه، فقالت له لن يعجزني هذا الدواء، وذهبت إلى مخزن المنزل فتناولت فأسا ثم اتجهت إلى مخدع زوجها الميت تريد انتزاع دماغه، عند ذلك فتح الرجل عينيه وقال لها: ألم تكن تلك المروحة في يد المرأة خير من هذا الفأس في يدك؟ أليست تلك التي تجفف تراب قبر زوجها بعد دفنه أفضل من التي تكسر دماغه قبل نعيه؟
وقد نسب المنفلوطي هذه القصة إلى الأدب اليوناني بالتفصيلات التي ذكرتها، ويبدو أن هذه القصة وُجدت في أكثر من ثقافة بروايات مختلفة وصيغ متعددة، حتى لتبدو أنها من بين تلك القصص الإنسانية المشتركة بين عديد من الثقافات، أو أن جميع الثقافات تواطأت لتُدين خيانة المرأة.
لكننا لم نعثر على قصص تاريخية أو أدبية لخيانة الرجل، رغم أن هذا السلوك شائع لدى الرجل، سواء الغربي أو الشرقي، وهو قليل جدا جدا لدى المرأة، لا يمكن مطلقا مقارنة خيانة الرجل بالمرأة، يجري الوفاء في دم المرأة كما تجري الخيانة في دم الرجل، هذه ليست إدانة تاريخية للرجل، لكن معظم الرجال يفكرون بهذه الطريقة، وأنا لم أجد من خلال قراءتي البسيطة في عموم التاريخ الأدبي والإنساني قصصا تجسد شخصية الرجل الخائن، قد تكون هذه لاعتبارات عدة، أهمها هي أن الرجل هو الذي كتب القصص والأدب عبر التاريخ، وقد احتفظ لنفسه بصورة ناصعة وجميلة جدا عن وفائه المزيف.
علم النفس يدعم هذه الوجهة، فالرجل في نظره أكثر قابلية للخيانة من المرأة، وإن كان علينا أن نفترض أن أمام خيانة كل امرأة واحدة في العالم خيانة مائة رجل أو يزيد، هذا ليس دفاعا عن المرأة وعن وفائها، بل اعتقاد مُر ولكنه صحيح من وجهة نظر التاريخ والواقع.