الزَّمن الَّذي نُعطيه للمجتمع
الإثنين, 25 نوفمبر, 2019 - 07:27 مساءً

في لقاءٍ جمَعَنِي وإيَّاه بعد سنوات طويلة، قال لي صديقي بصوت مملوء بالحسرة: “لقد أضعْتُ عمري في العمل الحقوقيِّ العامِّ، فلَيْتَني كرَّست وقتي لمصلحتي الخاصّة”. كان صديقي الَّذي يقترب من عمر الأربعين، قد قرَّر الانخراط في خدمة المجتمع مذ أن كان طالبًا في الجامعة -بحسب قَوله-، ثمَّ اكتشف بعْدَ عقْد ونِصف أنَّه لم يتَّخذ القرار الصَّائب؛ إذ عَدَل عن الاهتمام بشؤونه الخاصَّة، كبقيَّة زملائه الَّذين أصبحوا في مستوًى مادِّيٍّ أفضل منه. فبات العمل من أجل المجتمع بالنِّسبة إليه، أمرًا يناقض الرَّفه الشَّخصيِّ.
 
الحقيقة، أنَّ هذه القناعة أسمَعُها وشبيهاتِها مِن قِبل الكثيرين. فهي إدراك مُبكر أو متأخِّر بعدم صوابيَّة العمل العامِّ، وبوجوب الانكفاء على المصلحة الذَّاتيَّة فقط. وقد يبدو الأمر واقعيًّا لبعضهم. فلماذا يتوجب عليّ تقديم قضايا المجتمع على قضاياي؟ يدعم ذلك ما يطفو على سطح ثقافتنا الدارجة من وصايا تدعم هذه المقاربة مثل: “خلِّيك بعد حالك”، أو “مِن بيتك لعملك ومِن عملك لبيتك”، والَّتي تُترجم فكرة العزوف الجماعي عن الانشغال في المجال العامّ؟! إنّها أفكار تبدو مُحاطة بقدر كبير من الأنانيَّة الجمعيّة من ناحية، وتوفِّر قدرًا من راحة البال وتجنَّب الأذى الذي عادةً ما يحيط بالانخراط المجتمعي، من ناحية أخرى.
 
هذا الأمر، خلَقَ فراغًا هائلًا في المجال العامَّ، تضاءلَت فيه المسؤوليَّة الاجتماعيَّة إلى حدودها الدُّنيا، وصار الأفراد الَّذين يحاولون كسر هذه الثَّقافة، ويكرِّسون جهودهم للمساهمة في تغييرها، يفترقون عند منتصف الطَّريق. في المقابل، أدَّى هذا الأمر إلى شيوع ظاهرة السَّطو على المجال العامِّ، مِن قِبل أفراد اتَّخذوا من العمل العامِّ وسيلةً إلى الثَّراء الخاصِّ، وتَجْيير مصالح المجتمع لِسلسلة من المصالح الشَّخصيَّة.
 
هنا، تولَّدَت ثقافتان، الأولى: احتكاريَّة، ترى أنَّ العمل العامَّ مُلكيَّة مُطلَقة للحاكم أو الطَّبقة الحاكمة، والَّتي تَشغلها فئة معيَّنة من النَّاس، وصار العمل فيه حِرفتَها الَّتي لا يجب أن يُنازعها فيه أحد. والثَّانية: ثقافة عُزوف، تجد الهروب من المسؤوليَّة المجتمعيَّة وسيلة إلى الحفاظ على مصالحها الشَّخصيَّة. وكِلَا التَّيَّارَين باتا يغذِّيَان بعضهما بعضًا، وصار لكلٍّ منهما في هذه الظَّاهرة منظومتُه الخاصَّة، الَّتي تُمْلي على أفرادها أنماط السُّلوك الواجب اتِّباعها.
 
شجَّع على دَيمومة هذه الظَّاهرة، أسبابٌ بُنْيَويّة لها علاقة بالتَّربية والثَّقافة المَوجودتَيْن في المجتمع؛ إذ إنَّ النِّظام التَّعليميَّ والاجتماعيَّ الَّذي ننشأ في حَواضنه، لا يقدِّم مقاربةً رشيدة تُجيب عن السُّؤال: “لماذا نتفاعل مع العمل العامِّ؟ وبأيِّ وسيلة؟ وكيف نستطيع أن نحقِّق النَّجاح الشَّخصيَّ والنَّجاح المجتمعيَّ في ذات الوقت؟”. لذا، نجد حالة عاطفيَّة في العمل العامِّ، تَؤُول إلى عُزوف في نهاية المطاف، أو نَجِد مرَّة أخرى حماسًا لحظيًّا من أجل خدمة المجتمع، يتحوَّل بعدَهُ المجتمع إلى خدمة صاحب الحماس.
 
ما يجب تأكيده، هو أنَّ المجال العامَّ مسؤوليَّة جميع أفراد المجتمع، إذ إنَّه يُعبِّر عن حالة الوعي بأهمِّيَّة الحفاظ على المصلحة المشترَكة، ومناقشة الأنساق العامَّة في المجتمع ومراقبتها. هذا الدَّور المجتمعيُّ ليس ثانويًّا، بل هو امتداد لدائرة الخاصّ لكلِّ فرد. يشير هابرماس إلى هذا المفهوم في توصيفه للمجال العامّ، بأنّه: “المجال الذي ينشأ من أفراد خصوصيِّين يجتمعون معًا كجمهور، ليتناولوا احتياجات المجتمع من الدَّولة، والمشاركة في نقاشات حول القواعد العامَّة، الَّتي تَحكم العلاقات المتعلِّقة بالعمل الاجتماعيِّ والسِّياسيّ، حيث يَستخدم فيها هؤلاء الأفراد عقلانيَّتهم وتفكيرهم أثناء مناقشة هذه المسائل العامّة”.
 
بالعَودة إلى عبارة صديقي، نرى أنّ الكثير من المنخرطين في المجال العامِّ، يَشعرون بقدر كبير من الإحباط بسبب عوامل عدّة، أبرَزُها أنَّ فراغ المجال العامِّ مِن قِبل العاملين فيه، يجعلهم يحملون قدرًا كبيرًا من الالتزام الَّذي يفُوق قدرتهم. هذا الأمر يؤول في نهاية المطاف، إلى حالة من استهلاك المساحة الخاصَّة، لا سيّما مع غياب حالة التَّوازن بين المجالَين. العامل الآخر، هو معياريَّة النَّجاح الَّذي يضع الإنجاز المادِّيَّ الفرديَّ على رأس القائمة، ويقلِّل من شأن المشاركة المجتمعية. وهو معيار رسَّخَته سنين طويلة ومنظومات تربويَّة، صارت من ثَوابت المجتمعات.

* نقلا عن موقع تعددية 

التعليقات