زرتُ محافظة المهرة لأول مرة بحياتي، ومكثتُ فيها ما يزيد عن أربعة أشهر، في تجربة صحفية مثلت لي الكثير في العمل الصحفي، تنقلتُ خلالها في أغلب مديريات المحافظة، واطلعت عن قرب على تفاصيل المشهد العام في محافظة المهرة، والتقيت خلالها بأكثر من ستين شخصية اجتماعية وحكومية وسياسية.
كانت نتيجة ذلك أكثر من إثنا عشر مادة صحفية كتبتها من المهرة، تتنوع بين التحقيقات الميدانية والحوارات الصحفية، والمواد التحليلية عن واقع المهرة اليوم، ولازال هناك الكثير والكثير من القضايا التي يمكن ان يكتب في الأيام القادمة عن محافظة المهرة وتمثل في مجملها رسما للمشهد العام الراهن.
أولى ردات الفعل بعد حوالي ثلاثة أشهر من مغادرتي المهرة ونشر تلك المواد كان صدور توجيه بمنعي من دخول محافظة المهرة عبر أي منفذ من منافذها، جرى نشر صورتي الشخصية من موقع فيسبوك وارفاقها بالتوجيه مع التعريف بهويتي كصحفي والقبض عليا حال وصولي أيا من المنافذ، كان التوجيه صادرا من قوات السعودية في المهرة، وأبلغت حينها من أصدقاء هناك بعدم العودة وعدم نشر الخبر، معتبرين أن الوقت كفيل باسقاط ذلك التوجيه.
لم يكن الأمر مهما بالنسبة لي، فما كنتُ أتطلع لمعرفته عن المهرة وواقعها عن قرب خلال الزيارة كان كافيا لمعرفة ما يجري هناك، وفتحت لي الزيارة الباب واسعا لاستكشاف محافظة تعد من أعرق المحافظات اليمنية تاريخا وجغرافيا وأرضا وإنسان.
ينتابك هناك شعور بالأسى لعدم زيارتك لهذه المحافظة من قبل، فهي الجميلة بشواطئها وبحرها وأهلها، والغنية بمعالم الطبيعة الساحرة، التي يمكن لها إن أحسن استثمارها أن تشكل رافدا اقتصاديا يعول اليمن بأكمله بما تملكه من ثروات ومقومات وبيئة لاتزال بكرا في مختلف الجوانب.
لكن الأحداث التي تشهدها المهرة منذ ثلاثة أعوام ولدت العديد من التداعيات، وخلفت واقع مرير، لعل أهونه هو حالة الانقسام التي يعيشها أبناء المهرة جراء الوجود السعودي هناك، ومثلما كان ذلك الوجود سببا في حالة اليقظة التي سرت في أبناء المهرة وهم يرفعون شعار السلمية للفت الانتباه لقضيتهم، بقدر ما أثار الانقسام أيضا في مجتمعهم الذي يشهد لأول مرة افتراقا غير مألوف.
كل ذلك ما كان ليحدث لولا سوء الإدارة الذي تسبب به المحافظ السابق راجح باكريت، وجنايته على المهرة وأبنائها، وهي جناية تمتد من تسليمه المطلق والكامل للقوات السعودية لتفعل ما تشاء إلى الفساد المالي والإداري الذي مارسه في أسوأ حقبة عاشتها المهرة.
تسبب كل هذا في حرمان المحافظة من مواردها، وإهدارها وانفاقها لصالح اللوبي الذي يحيط بباكريت، سعيا وراء الولاءات التي يبحث عنها لتعزيز نفوذه وإطالة بقائه في رأس المحافظة.
إن الإنسان المهري بطبيعته مسالم، ويعتز بهويته وانتمائه، وهو حالة فريدة تمثل نموذجا رفيع القيمة قياسا لما يحدث في كثير من المحافظات اليمنية، ففي المهرة تختفي النزعة التشطيرية والعصبية المناطقية، ويعيش السكان هناك على وفاق وتناغم مع جميع الواردين والقاطنين في المحافظة.
لذلك تنتظر اليوم المحافظ الجديد محمد علي ياسر الكثير من الملفات والقضايا التي يؤمل عليه في حلحلتها، وجاءت كإرث ثقيل من سلفه، وتحتاج لمعالجات وحلول تضمن انتهاؤها وعدم عودتها، حتى يشعر المجتمع المهري بوجود تغير وانفراجه على مستوى الواقع.
لن نشير هنا إلى منظومة العمل الحكومي التي تنتظر الانقاذ لتعود لها الروح التي دمرها باكريت بدء من اهمال المجلس المحلي وتهميش دوره أو إصلاح منظومة العمل الحكومي واستعادة الثقة بمؤسسات الدولة، فتلك قضايا يدركها المحافظ ياسر جيدا، وسبق له التعامل معها، لكن الحديث هنا عن محافظة يتطلع أبنائها لتعود لطبيعتها الآمنة والمسالمة، وتنتفي عنها كل الأوبئة التي لوثتها مؤخرا.
فالمليشيا تعبث وتتسيد المشهد في المهرة، وهي حالة غير مألوفة من قبل، وتحتاج لإعادة نظر في دورها وقانونيتها، خاصة تلك التي شكلها ومولها ورعاها باكريت لتصبح عصاه التي يستخدمها ضد خصومه، فيما جرى إهمال القوات الحكومية النظامية سواء بالجيش أو الأمن.
الثقة بين أبناء المحافظة هي الأخرى اهتزت كثيرا، وهي بحاجة ماسة لرتق يلئم الجروح، وتتوحد الجهود بما يخدم المهرة وينعكس إيجابا عليهاـ خصوصا مع حالة الغليان المستمر جراء التواجد السعودي، وما أحدثه من فرز مجتمعي، كاد أن يدفع الجميع إلى مواجهة مسلحة.
أما المحورين الأهم الذان سيشكلان تحديا أمام المحافظ الجديد فيبدوان أكثر حساسية من كل التحديات، يتعلق الأول بكيفية ضبط ايقاع العلاقة بين الوجود السعودي والصف المهري المناوئ لذلك الوجود، وهل سيستطيع "بن ياسر" أن يكون حلا وسطا يحقق للمهريين رغبتهم المطالبة بالسيادة وبنفس الوقت يوقف صلف السعودية وعبثها المستمر بما يفضي لواقع جديد يختلف عن حالة التوتر السابقة أم ماذا.
لقد أبانت الأحداث السابقة أن السعودية هي المتسبب الرئيسي في حالة التوتر في المهرة، ولم يكن باكريت سوى أداة مستخدمة في ذلك الدور السعودي، وتوارت السعودية خلفه كممثل للسلطة المحلية ونفذت ما تريد من أجندتها، ووصل الأمر حد اعتبار الرفض المناوئ لها بأنه يجري بين فصائل مهرية متنازعة بينها، وليس بسبب التواجد السعودي نفسه.
ولذلك ستتجه الأنظار حتما إلى هذه النقطة تحديدا، والتي تتعلق بمدى إمكانية المحافظ الجديد في ضبط هذا الإيقاع، وهل سينجح في إصلاح ما أفسده سلفه، ويكون مرجعا للجميع، ويمنع ويوقف كل مسببات النزاع، أم أن السعودية ستظل هي المهيمنة على كل تفاصيل المشهد، وتجعل منه يافطة كما كان الحال مع سلفه.
التحدي الثاني يكمن في العلاقة مع سلطنة عمان، التي تنظر بعين التوجس لما يجري في حدودها، وتطلع لبقاء المهرة منطقة آمنة بعيدة عن الاضطرابات حتى تحافظ على أمنها القومي، خصوصا بعد حالة التحشيد العسكري التي قادها المحافظ باكريت ومن خلفه قوات الرياض لارسال المليشيا والسلاح الثقيل إلى قرب الحدود العمانية مخالفين بذلك الاتفاقية الموقعة بين اليمن والسلطنة حول عملية تأمين الحدود بين البلدين.
تنظر السلطنة إلى المهرة كعمق استراتيجي، ولاترغب ببقائها بؤرة توتر ونزاع مسلح، وساهم باكريت بتصرفاته الطائشة في إقلاق السلطات العمانية، وانحاز بهرولة كبيرة إلى الجانب السعودي، ودار في دائرة أجندتها، ولم يراع حتى أبجديات العمل الحكومي ولا الموقف العماني الممتاز تاريخيا في المهرة، ووصل الأمر به إلى حالة التحشيد العسكري قرب حدودها، بل ومهاجمة سلطنة عمان واتهامها بجملة من الاتهامات الباطلة.
إن أكثر شخص يدرك التعامل مع سلطنة عمان، وحقيقة الدور الأخوي الذي تقدمه مسقط لمحافظة المهرة هو المحافظ الجديد محمد علي ياسر، فعندما سقطت الدولة في صنعاء إبان عمله كمحافظ للمهرة في العام 2014 تأثرت المهرة بحالة الاضطراب في صنعاء، وكان حينها لسلطنة عمان دورا رياديا ربما لا يعلمه الكثير حين مدت السلطة المحلية بقيادة "بن ياسر" بالمشتقات النفطية التي ضمنت استمرار منظومة الكهرباء، بالإضافة لكثير من أوجه الدعم التي ساعدت في تحسن الوضع في المهرة، وعدم تضرره.
لذلك تحتاج العلاقة مع سلطنة عمان هي الأخرى لترميم وتصفية الصورة لإزالة التشوهات التي أثرت عليها، وهي عملية تحتاج إلى التوازن في العلاقة خاصة مع وقوع المحافظ الجديد في منزلة وسطى بين الدور العماني المتطلع لإطفاء الحرائق المشتعلة في المهرة، والدور السعودي الذي يسعى لتعزيز وجوده فيها يوما بعد آخر، وهي معادلتين تقتضيان الحكمة والشجاعة والصبر.