قبل أكثر من نصف قرن خرج شاب يدعى "حمود" من قريته في مديرية مذيخرة بمحافظة إب، ولم يعد.
لم تعلم أسرته عنه شيئا، ولم تتعرف على الوجهة التي اتجه إليها، وباءت محاولات البحث عليه بالفشل.
كان حينها في مطلع شبابه، وهو أخا لأربعة أشقاء، وبعد محاولات مضنية للتوصل إليه ومعرفة مصيره اقتنع الجميع بأن الشاب "حمود" قد توفي.
كان الوضع في ذاك الوقت معقدا، فالتنقل والترحال بدائي، ويتم عبر ركوب الحمير والبغال، وتبدو مناطق إب متباعدة، والطرق التي تربط القرى صعبة وشاهقة، والبحث عن شاب بمثل تلك الظروف كان مهمة صعبة.
توفي والد "حمود" ولم يعلم عن ابنه شيئا، وعند وفاته أوصى بتخصيص قطعة أرض لـ"حمود" مقابل تكاليف عرسه، وهو عرف سائد اجتماعيا لدى كثير من الأسر، في تخصيص قطعة أرض لمن توفي والده قبل زواجه.
ربما كان والد "حمود" حينها لايزال يشعر أن إبنه سيعود، وأن رحلته الطويلة ستكون كخروج يوسف، سيغيب ثم سيعود، وتلك هي مشاعر الأب التي تظل متيقظة، وتعيش على أمل الاجتماع بالولد الغائب مجددا.
شب إخوة "حمود" وباتوا على يقين تام إن شقيقهم مات بالفعل، فقد مرت سنين طويلة على غيابه، فتقاسموا أرض وميراث والدهم، ولم يتركوا لحمود سوى تلك القطعة من الأرض التي أوصي بها والدهم.
ومن وقت لآخر تأتي روايات من أشخاص أنهم قابلوا "حمود"، فهذا يحكي أنه شاهده في السوق، وذاك يردد أنه سمع عن تواجده في تلك القرية، لكن كل تلك الروايات لم تكن حقيقية.
أصبح لدى أشقاء "حمود" أبناء وحفدة، وبلغ بهم العمر عتيا، ولم يبقى من "حمود" سوى ذكرى يتذكرها أبناء القرية الكبار والصغار، عن شاب غادر القرية ولم يعد، ويردد الجميع بأسى: "يعلم الله إن كان حمود حيا أو ميتا".
مات شقيق "حمود" الأكبر، وهو غائبا، ونالت الظروف والأحداث من بقية إخوانه، ومن سكان القرية أيضا، بل ومن القرية نفسها التي طرأت عليها ملامح ومتغيرات كثيرة.
وفي غمرة اليأس التام من عودة "حمود" جاء "حمود" إلى القرية.
كان عمره في السبعينات، وبدا شاحبا ظامرا، وعلامات الإرهاق والضنك تكسو ملامح وجهه وكل بدنه، لم يتزوج، وليس له أي مال، سوى مجموعة من الأغنام، ولا أحد يعلم ما الذي حل به طوال تلك السنوات التي أفنى فيها شبابه، وقضى فيها الشطر الأكبر من عمره.
تلك الأغنام كانت ثروة حمود ورأس ماله، عاد متمسكا بها، بينما كانت القرية قد بدأت بالتخلي عن رعي الأغنام، بعد التوسع العمراني الذي شهدته، والكثافة السكانية المرتفعة، وقلة المياه، واعتماد الناس على وسائل جديدة في معيشتهم.
ما تلك العصا التي بيمينك يا "حمود"؟
هكذا توجه الناس له بالسؤال، كانت تلك العصا هي "شبابة" آلة موسيقية كان يعزف عليها، من وقت لآخر، وباتت هوايته المفضلة، يعزف عدة ألحان تراثية، ويخبئها داخل "الكوت"، وكلما طلب منه أن يعزف أخرجها، وأطلق لنفسه العنان في الألحان التي كان يتقنها.
الأغنام وآلة العزف، ربما أعطت الناس انطباعا عن الفترة التي قضاها حمود غائبا عن القرية، فهم الناس أن "حمود" عاش حياته راعيا للأغنام في مكان ما، وأغلب الروايات تؤكد أنه كان متواجدا في منطقة السحول خارج مدينة إب، وهي مكان يبعد عن قريته حوالي سبعين كيلو متر فقط.
اضطر أشقاؤه لبناء منزل جديد له، ولغنمه أيضا، وجرى إخراج ميراثه من بعد أبيه كاملا، وبات على حمود أن يعيش مع سكان القرية الذين تغيرت معظم وجوههم، ورحل أغلب شباب جيله، وقضى بقية عمره متنقلا بين منزله ومنازل القرية وجبالها وأوديتها، محتفظا بعلاقة ود مع الجميع.
قضى "حمود" نحو عشرون عاما في القرية منذ عودته، وتقدم في السن أكثر، وتعرض للمرض، ويوم أمس الأول انتقل إلى جوار ربه، مخلفا قصة غامضة لشاب أفنى عمره في المجهول، ولم يتزوج قط، ولم يعرف أحد تفاصيل حياته، وذهب إلى ربه وحيدا مثلما عاش الشطر الأكبر من حياته وحيدا.
تشعرك قصته بالأسى، وتنتابك قشعريرة مروعة عن ظلم المجتمع، وقساوة الظروف، ومرارة الأيام، وتضع في رأسك تساؤلات عديدة عن المقادير الإلهية حين تنال من الواحد، وتجعل حياته عدمية، فتغادر الحياة وكأنك لم تكن، وليس لديك فيها رصيد، سوى ذكرى من رحلة شاقة، يتسيد عليك فيها الألم والحسرة.
رحمك الله يا "حمود" وعسى أن يكتب الرحمن لك الرحمة وأنت بين يديه، ويعوض عنك ما عانيته في الدنيا.
واليوم أصبحنا جميعا "حمود".
