تعز .. قصة الحصار والحرب
الاربعاء, 15 يونيو, 2022 - 06:57 مساءً

في لعبة السلام المزعوم، كما في الحرب، ظلت محافظة تعز اليمنية ملفاً ثانوياً، وقد وُضعت بعناية في بند أخير في الهدنة التي أبرمتها السعودية مع الحوثيين.
 
حتى اللحظة، حصد الحوثيون كل مكاسب الهدنة: الحصول على أموال ضخمة من عائدات تدفقات المشتقات النفطية، فتح ميناء الحديدة، فتح مطار صنعاء، وقف تام للطيران الحربي، والأهم تجديد الهدنة دون أي التزامات.
 
كانت الهدنة في الحقيقة بين الطرفين اللذين جلسا معاً في العاصمة العمانية مسقط في محادثات سرية: السعودية والحوثيين، بينما لم تتوقف مدافع الأخيرين وطائراتهم المسيرة عن قصف المحافظات اليمنية.
 
على نحو خاص، كانت المليشيا أكثر تركيزا على تعز ومأرب قصفا ومحاولات تقدم.
 
تقدّر مليشيا الحوثي هذه الهدية المجانية التي قدمتها الرياض، وتدرك تماماً ماذا يريد منها التحالف، بشكل خاص حيال تعز.
 
بعبارة مختصرة : ما يريده التحالف هو ما فعله الحوثي طيلة أكثر من سبع سنوات صعبة وقاسية ومدمرة لتعز ولليمن عموماً.
 
عندما ذهبت السعودية للتفاهم مع الحوثيين، تركت خلفها السلطة الشرعية، وكانت قد عزمت على إعادة هندستها على النحو الذي شاهدناه في 7 إبريل، ثم جلبتها معها للموافقة على هدنة ،لم تكن طرفا فيها، بلا شروط!
 
مثل كل مرة، كانت الشرعية مجرد، شخير مخزي للرجل الأول، وغباء فادح، ايقظوه  في منتصف الليل لإجباره على قراءة بيان عزل  نفسه!
 
في مسقط لم يجد الحوثيون صعوبة في إنتزاع ما يريدون. كانت الرياض تمنحهم كل شيئ بمقابل وحيد : وقف هجماتهم ضد السعودية.
 
هناك انتهت المعزوفة التي طالما رددها التحالف طيلة فترة الحرب عن "حماية الشعب اليمني من الإرهاب الحوثي الإيراني".
 
أما البند المتعلق بتعز، فقد وضعته الرياض على مضض، فقط "لتهدئة حكومة هادي التي قيل إنها قاومت الصفقة" بحسب التقرير الأخير لمجموعة الأزمات الدولية.
 
بتعبير أوضح : كان الحوثي يدرك، كما أرادت السعودية، أن تحويل جريمة حصار تعز، كملف إنساني، الى بند للتفاوض، يعني إتاحة الفرصة لمسلسل طويل من العبث، وكانت تلك جائزة الحوثي التي ظفر بها، ب"محبة" سعودية بالغة.
 
بفضل هذا الكرم السعودي والخضوع الذي لازم مجلس الثمانية، فقد حول الحوثي القضية إلى مهرجان سيرك تشارك فيه الأمم المتحدة والمبعوث الأممي بحماسة شديدة.
 
وفقاً لهذه المعطيات : لماذا يبدو البعض مصدوماً من تعنت الحوثي ورفضه التفاهم بشأن فتح الطرق الرئيسية في تعز؟
 
ثم ما الذي يجبر الحوثي _ وقد حصل على تسهيلات طيلة فترة الحرب للإستمرار بحصار تعز _ على فتح الطرق وهو يحصل على المزيد من التسهيلات في تفاهمات التهيئة للسلام المزعوم بدون عناء؟
 
لقد فعل الحوثي كل ماهو متوقع : ماطل في تقديم أسماء ممثليه في المفاوضات قبل إنتهاء الهدنة الأولى بأيام، بدأ التفاوض والهدنة في أيامها الأخيرة، أنهى التفاوض لطلب التشاور في مسقط، ثم جولة ثانية انتهت بمرافقة شخصية من المبعوث الأممي للوفد الى صنعاء، لإقناع قيادات الحوثي، لفتح طريق وحيد... وعاد خائباً.. مبتلعا لسانه حتى اللحظة.
 
رغم كل ذلك، فالحوثي يمضي في تفاهمات جانبية مع السعودية في هذه الأثناء في العاصمة العمانية مسقط، دون أن يخامر الرياض أي شعور بالحرج حيال حلفائها "الهطل"!
 
في الواقع ذهب الحوثي الى المفاوضات في العاصمة الأردنية عمان  وقد حصل على سلسلة من المكاسب المجانية، قبل أن تمنح له تعز، لفرد عضلاته منفردا على الطاولة.
 
 بالإضافة إلى الإنسحابات الميدانية من محيط مدينة الحديدة غربي البلاد واتاحة السيطرة على أكثر من مائة كيلو من السواحل الإستراتيجية، بأوامر من التحالف، كانت مليشيا الجوثي تحوز مكاسب سياسية هائلة : زيادة الاعتماد على سياسة الملشنة من قبل التحالف وضخ المزيد من التشكيلات التي لا تتبع وزارة الدفاع، ومفاقمة وضع الشرعية الرخوة ومسخها في صورتها الأخيرة الى ثمانية أعضاء في مجلس رئاسي.
 
المؤكد أن المجلس هو حصيلة استراتيجية التفتيت التي اعتمدها التحالف للشرعية، في حين أن طريقة تصميمه وظروف تكوينه كإنعكاس لإرادة خارجية، لن تساعده على القيام حتى بالحد الأدنى من  المقاومة لأي ضغوط سعودية إماراتية.
 
أما على طاولة  المفاوضات فقد وصل  الحوثي مسنوداً بحليف إيراني قوي، لم يتوقف عن إطلاق التهديدات بينما يتوسله أعداؤه المفترضين بفتح قنوات تفاهم خلفية.
 
ما لم يكن في حسبان البعض، أن الحوثي لا يستند فقط  على حليفه المعروف، بل سيحوز أيضا إسنادا  ممن يفترض أنه حليف خصومه وعدوه : السعودية.
 
طوال الوقت ضغطت السعودية  على المجلس الرئاسي والحكومة الشرعية، لإنفاذ الهدنة رغم استمرار الحوثي في إطلاق النار، بمافي ذلك الصواريح البالستية والطائرات المسيرة.
 
أما على طاولة التفاوض، فقد حصل الوفد الحوثي على دعم آخر إضافي : أحضان سعودية دافئة، كانت بمثابة مباركة للتعنت بشأن فتح طرق تعز.
كانت تلك الأحضان هي مهمة "جانبية" لوفد عسكري سعودي.  حضر الوفد على هامش المفاوضات في لجنة عسكرية أخرى، مع ذلك فقد حرص بإلحاح على زيارة وفد الحوثي ومعانقته.
 
احتفى السعوديون بيحي الرزامي رئيس وفد مليشيا الحوثي وقدموا لهم الهدايا. يبدو أن المملكة لم تكن تريد للحوثي الإكتفاء بالهدايا الميدانية فقط!
 
 على هامش كل ذلك، كان السعوديون يقولون بما يشبه السخرية : اقبلوا بالحاصل يا أصحاب تعز!
 
في الواقع  يريد السعوديون من تعز القبول باستمرار حصار تعز  و" القبول" بالحاصل" مثلما فعل قادة الشرعية وتعز، المدنيين والعسكريين' بقبول "الحاصل" طوال فترة الحرب، ثم تفرغوا لشؤونهم!
 
لقد كان استمرار الحصار لتعز، هو نتيجة لقبول " الحاصل" الذي قدمه التحالف، وكانت استراتيجيته العسكرية والسياسية بالتأكيد تريد تحويل تعز الى صورة مصغرة لمشهد مآلات الحرب في اليمن بصورتها  المرعبة.
 
يدرك التحالف مقدار الحقد الطائفي الذي تكنه مليشيا الحوثي لتعز، باعتبارها مركز الخزان البشري المناهض لمشروعها، أو بالأحرى نقيضها الطائفي وفقا لتعريفها لخصومها.
 
كما يدرك أهمية تعز العسكرية والسياسية للحوثي، في المعركة الكلية لليمن، فضلا عن وزنها الديمغرافي في البلاد.
 
هذا الفهم المسنود بموقف مسبق، لمحافظة كانت منبع العمل السياسي وموئله، ومركز الثورة الشعبية، استخدمه التحالف بصورة معكوسة لإبقاء المحافظة رهن العذاب والتنكيل الحوثي، بزعم ضرب الحزب السياسي ذو الحضور المهيمن : التجمع اليمني للإصلاح.
 
لا السعودية ولا الإمارات تفضل مشاهدة فضاء سياسي يعج بالتنوع والعمل الحزبي والأيدلوجي، بغض النظر عن جذوره وأطروحاته السياسية والفكرية، حتى لو كان اليسار هو المهيمن.
 
هذا الإدراك كان في صلب توجهات التحالف، وهو يخوض الحرب في تعز.
 
في كل  المناطق التي أراد التحالف حيازتها كانت رغبته بالتحرير نافذة، ولم تأخذ وقتا طويلا، بينما قاتل لصناعة واختلاق الذرائع في ما لايرغب، وأنسحب أحيانا ببساطة من  مساحات شاسعة رغم التضحيات الكبيرة.  ذلك ما حدث في تعز  أيضا.
 
عندما كان التحالف، بقيادة السعودية والإمارات، يريد طرد الحوثيين من" تعز المفيدة" (المناطق الساحلية المطلة على  باب المندب، الممر الدولي المهم والحيوي والمناطق المحاذية له، وميناء المخا ) فعل ذلك بكل سهولة. لم يكن الأمر بحاجة للكثير من الوعود والإعلانات والعمليات والأسماء.
 
كانت عملية واحدة وناجزة، توفرت فيها الإرادة السياسية والعسكرية فتدفق العتاد العسكري بكل أنواعه، بمايكفي لكسب حرب البلاد كاملة.
 
كانت معركة خاطفة ثم أنتهى كل شيء، حتى ان الساحل بات " قطاعا منفصلا " عن محافظته الأم، ولم تتوقف  القوات إلا على مداخل مدينة الحديدة، قبل أن يجبرها التحالف على الإنسحاب " وإعادة التموضع" مؤخرا.
 
 في المقابل كانت تعز " غير المفيدة" مكاناً منبوذاً بالنسبة للتحالف ، وقد صنع صورة نمطية للمدينة التي يجب أن يراها رهن الحصار.
 
أعاد أستخدام الشماعة نفسها التي استخدمتها دوله في سبتمبر 2014 لدعم الحوثي واسقاط صنعاء: ضرب حزب الإصلاح،   قبل أن تطور نفسها لاحقا إلى تحالف لخوض حرب تدمير وتمزيق بزعم ضرب الحوثي وقطع يد إيران!
 
المفارقة أن قيادات هذا الحزب، الذي تركته الرياض أشبه بكيس ملاكمة لحليفتها ابوظبي لتبرير حصار تعز ومنع استكمال التحرير، كانت تعيش طوال هذه الفترة في السعودية!
 
للإيهام بتحرير تلك المناطق المنبوذة، أعلن التحالف بشكل مباشر أو غير مباشر عن عديد عمليات بأسماء مختلفة لتحرير المحافظة، وفر لها كل شيئ باستثناء السلاح والعتاد العسكري والإمكانيات المادية اللازمة للتحرير!
 
مثلما مزق التحالف البلاد، مستفيداً من خدمات مليشيا الحوثي الطائفية الإنفصالية الموالية لإيران، عمل أيضاً على تمزيق تعز، الى"تعزات ":
 
تعز المدينة وجزء كبير من الأرياف المحيطة بيد الشرعية التي زعموا المجيئ لدعمها، وتعز  المنطقة الصناعية ومداخلها الشرقية والشمالية والغربية بيد الحوثي، بينما تعز الساحل عبارة عن جمهورية مستقلة للشرعية التي تخلقت من إعلان 7 ابريل بقيادة طارق صالح.
 
وسط هذه " التعزات" الثلاث كانت تعز " الشرعية" بكتلتها  السكانية الأكبر ، هي التي تعمد التحالف ابقاءها محاصرة تحت رحمة سيوف ورماح الحوثي، راغباً بمشاهدة المزيد من الدماء والدموع والتوسل.
 
بعد أن قامت مليشيا الحوثي بالتسبب بإشعال الحرب وتحويل البلاد الى ساحة لتصفية حسابات إقليمية وتنفيذ أجندة وأطماع الجوار، هاهو التحالف وتحديداً طرفه الرئيسي السعودية يتقرب من الحوثي.
 
 منذ سنوات، لم تتوقف القنوات الخلفية عن احتضان اللقاءات السرية بين الجانبين، كما يحدث في هذه الأثناء.
 
لم تكن مشكلة التحالف مع مليشيا الحوثي أنها استولت على العاصمة صنعاء بقوة السلاح وأطاحت بالشرعية. ذلك آخر ما تهتم له ممالك الخليج العشائرية.
 
 مشكلة التحالف المركزية التي جلبته لليمن، هي أن الحوثي نكث بوعده، وبدلاً من الولاء للسعودية والإمارات، باع الجمل بما حمل لإيران!
 
 ربما يعشم التحالف نفسه الآن باقتسام ولاء الحوثي مع إيران، أو اقتسام اليمن معها، وفقا لوصفة اوبامية قديمة.
 
ذلك بنظره أفضل من هزيمة الحوثي،وقد كانت ممكنة طوال فترة الحرب، لكن  التحالف عمل جاهدا لمنعها، طامعا بهزيمة اليمنيين جميعا!
 

التعليقات