الشاعر اليمني عبدالله قاضي.. القصة الحزينة لقصيدة النثر
الأحد, 11 يونيو, 2023 - 02:34 مساءً

في سنة أولى جامعة أهداني أحد الأصدقاء مجموعة شعرية حملت اسم الشاعر اليمني عبدالله قاضي. الحقيقة كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها بـ عبدالله قاضي، وزاد من استغرابي أن هذا الشاعر، شيخ مُسن يتجاوز السبعين.
 
 حين قرأت بعض نصوص تلك المجموعة شعرت أنني أقرأ ما لم أقرأه، وحين سألت وعرفت عن حياته أكثر، أدركت أن عبدالله قاضي هو بالفعل قصة حزينة على أهداب قصيدة النثر ليس على مستوى اليمن فحسب وإنما على مستوى البلدان العربية.
 
 منذ سنوات بعيدة، بعيدة للغاية،  يعيش عبدالله قاضي، منعزلاً عن العالم داخل كوخ صغير صنعه بنفسه داخل مقبرة، بمنطقة (بئر باشا)، إحدى ضواحي مدينة تعز اليمنية. ومع طلوع الشمس وانبلاج الشروق يطوف الأماكن من حوله ثم يعود إلى كوخه للقراءة ومحاكاة النفس.
 
يقول الشاعر اليمني المعروف عبدالوكيل السروري مُعلقاً على واحدة من أعذب نصوصه:
 
"عبدالله قاضي يلتقط صوره بروحه هو وليس بزوم الكاميرا تبصره يتوارى خارج النص وفجأة يظهر بمقارباته الحزينة:
 يا له من حزن كريم /
 ايها القمر
مر عليها
وامسح بشعاعك الحنون دمعها
دمعها الذي يسيل
 حارا كلواعج العاشق
باهتاً كالشفق
وحزيناً مثلي)
 
هذه اللغة حصرية على شاعرنا الكبير عبدالله قاضي لغة تسحر القارئ من أول وهلة.
أعرفه شاعراً وفيلسوفاً مثقفاً بامتياز، وعيه الكثير عبدالله قاضي، قارئ في كل اتجاهات المعرفة صوفي بالمعنى الفكري للصوفية تلاحظ ان التكرار في هذا النص في مناداته القمر كما لو أنه ينادي صديق ودود، أنا أحب هذا الشاعر وتسحرني لغته وهذا هو المهم، إنه عبدالله قاضي، يكفي لأن نقرأه باجلال واحترام شديد".
 
يرى بعض النقاد والمهتمين على أن قصيدة النثر كائن مستقل ونمط جمالي ارتبط في تطوراته التاريخية وبداياته الاولى في الفكر الصوفي. وإذا كانت كذلك فإن نصوص عبدالله قاضي الصوفية والمفعمة بخوالج وهموم النفس الإنسانية، نموذج يعكس صحة هذا الرأي ويتفق معه تماماً.
 
عبدالله قاضي بشهادة من يعرفه عن قرب، مثقف واسع وقارئ كبير، يعوض العزلة بالقراءة والتفكر والتعمق في إرشاد الذات..
في كتابه "هذا هو الانسان" يتحدث نيتشه عن مرحلة من حياته، أصابه المرض وكان مرغماً على الإبتعاد من القراءة، يقول: "لقد تم انقاذي من الكتب؛ وظللت لسنوات لا أقرأ - وهذا اعظم شئ أصبغته على نفسي. تلك النفس الجوهرية التي دفنتها والتي فقدت صورتها تحت ضغط الإرغام على الإنصات للنفوس الأخرى باستمرار، (وهذا ما تعنيه القراءة)".
 
رغم تهافت الأصدقاء ومحبي الثقافة والأدب في اليمن على محاولة اقناع عبدالله قاضي في الخروج من طقوس حياته التي اختارها، وبذل كل الإمكانيات، إلا أن عبدالله قاضي يقدم الإعتذار بكل لطف وحب..
 
عن سيرة المجموعة الشعرية المطبوعة لـ عبدالله قاضي؛ في العام 2004، كانت صنعاء عاصمة للثقافة العربية؛ وفي لفتة انسانية وأدبية حرص الأستاذ خالد الرويشان الذي كان يشغل وزير الثقافة-وهو شخصية ثقافية وأدبية مشهوره داخل وخارج اليمن- على الإيعاز في جمع ما يمكن من نصوص عبدالله قاضي في مجموعة شعرية، تم اصدارها وطباعتها ضمن مطبوعات واصدارات صنعاء عاصمة الثقافة العربية 2004.
 
حين سألت منذ متى بدأ عبدالله قاضي يعيش طقوس التصوف والعزلة، حدثني البعض: منذ أواخر السبعينيات، تقريباً 1978، الوقت الذي شهدت فيه اليمن مراحل من الصراعات ومسلسل الإغتيالات والصراع على السلطة. كان يومها عبدالله قاضي شاباً يقترب من الثلاثين أو يزيد، وبحسب ما حدثني الأصدقاء أن عبدالله قاضي كان وقتها أحد الشباب الذين تأثروا بالمد القومي الناصري القادم من مصر، وكان لابد للنظام الصاعد في ذلك الوقت بعد اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، أن يثبت مداميكه ويقضي على محاولة الإنقلاب التي طالته تحت تأثير ذلك المد، وحدث ما حدث من تصفيات طالت المئات من الرؤوس.
 
 تلك المرحلة باعتقادي كان لها الأثر في اقناع عبدالله قاضي على اختيار نمط جديد من الحياة يقضيها في القراءة والتفكر وكتابة قصيدة النثر، ليس بالطريقة الاعتيادية، لكنه يكتب بطريقة أخرى هي أعمق وأوسع، ولا زالت تلك الحياة التي اختارها منذ زمن بعيد مستمرة حتى اليوم.. نعم أنها القصة الحزينة لقصيدة النثر التي بطلها شاعر عجوز، متصوف يعيش في عزلة عن هذا العالم، هذا الشاعر اسمه عبدالله قاضي.
 

التعليقات