جيوبوليتيكا "الصراع الطبقي" في البحر الأحمر
الأحد, 24 ديسمبر, 2023 - 06:30 مساءً

أجّجت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التناقضات الملتهبة أساساً في حوض البحر الأحمر.

يأتي “ارتجال” الولايات المتحدة الأمريكية لتحالف عسكري أمني جديد تحت مسمّى “حارس الازدهار” لحماية السفن وناقلات النفط العابرة لمضيق باب المندب من هجمات الجماعة الحوثية في وقت بدأت فيه بعض كبرى شركات النقل تعديل مسارها الملاحي باتجاه رأس الرجاء الصالح في أقصى الجنوب من أفريقيا، ما يفرض وقتاً أطول لبلوغ الموانئ المقصودة وكلفة أعلى للشحن وجولة جديدة من عدم الاستقرار في سوق النفط وفي السوق التجارية والمالية بشكل عام.

ولا يمكن النظر إلى الواقع الحالي في منطقة البحر الأحمر الا بالتنبه إلى معطى غير تفصيلي: وهو أن الجماعة الحوثية تمكنت من بعد الحرب عليها من توطيد سيطرتها على الهضبة والعاصمة وعلى رقعة ساحلية تشمل مدينة وميناء الحديدة، وبالتالي هي في موقع الرابح للحرب، وهو ما يعود بشكل أساسي إلى اتخاذ الحرب على الحوثيين سريعاً شكل “حرب على اليمن” عوض أن يحدث العكس.

وقد جاءت البادرة الصينية لإعادة وصل العلاقات بين الرياض وطهران في إطار التصديق على نتائج هذه الحرب، المائلة إلى جانب الحوثيين وحليفهم الإيراني. في الوقت نفسه، “عدم اقتناع” الإدارة الأمريكية، وخاصة مع وصول جو بايدن بجدوى الاستمرار في هذه الحرب، كان عاملاً أساسياً في رسم النتيجة على الشكل الذي صارت عليه.

اتضحت نتائج الانتصار الحوثي – الاستراتيجي والنسبي في آن، كونه انتصار لا يفتح الطريق لإعادة إعمار اليمن ولا لإعادة توحيد البلاد، مع المشاركة اليمنية – الحوثية في الحرب الحالية، سواء من خلال توجيه الصواريخ الباليستية والمسيرات باتجاه ايلات، أو من خلال استهداف السفن وناقلات النفط المتجهة، عبر باب المندب، إلى إسرائيل.

لا يعود ذلك فقط إلى أن هذه المشاركة تظهر أنه بات للحلف الإيراني في المنطقة قاعدة حيوية له جنوبي البحر الأحمر، بل أيضاً لأنه، ومن نتائج الانتصار الحوثي في الحرب التي أطلقتها عملية “عاصفة الحزم” زيادة التناقضات بين البلدان المفترض أنها في المقلب المضاد لإيران ونفوذها في المنطقة، بدءا من اختلاف السياستين السعودية والإماراتية في اليمن، ووصولا إلى الاختلاف بين الدولتين، وبعد أكثر بين مصر والإمارات، في الموقف من طرفي النزاع الدامي المتواصل في السودان، ناهيك عن التقلبات والأخذ والرد في العلاقات السعودية المصرية.

فهذه العلاقات لم تستطع أن تتجاوز مفصل عدم ارسال مصر جيشها للحرب في اليمن.
 
الثنائي غائب
 
ثمة عناصر عديدة تدفع في كل مرة إلى معالجة الخلافات بين الدولتين بشكل يعيد ترطيب الأجواء، لكن العلاقات بينهما لم تعد إلى ما كانت عليه أيام الرئيس الأسبق حسني مبارك، يوم كان بالمقدور الحديث عن ثنائي “سعودي مصري”.
اليوم، هذا الثنائي غائب إلى حد كبير، وهذا يترتب عليه كلفة لمجمل منطقة البحر الأحمر.

ليس تفصيلا أن تعلن الولايات المتحدة تحالفاً في هذا الحوض لدرء هجمات الحوثيين على السفن وناقلات النفط دون أن تكون لا السعودية ولا مصر في عداد المشاركين، ولا حتى رسمياً الإمارات، هذا بخلاف البحرين.

في الوقت نفسه، خلو لائحة المتحالفين لحراسة “الازدهار” من اسمي مصر والسعودية لا يكفي لوحده لإعطاء دافع للنظامين لبلورة سياسة مشتركة في نطاق البحر الأحمر، ناهيك عن بلورة موقف سياسي مشترك حيال الحرب في غزة. ليس سهلا أساسا بلورة منظار واضح لما يراه النظامان من مخارج للوضع الحالي بين إسرائيل وحماس.

بخلاف الحرب في غزة التي أخرجت النزاع بين حماس وإسرائيل من حرب المواقع إلى حرب المواجهة الشاملة، فإن الحرب بين كل من “حزب الله” و”أنصار الله” وبين إسرائيل هي اليوم حرب مواقع بشكلين مختلفين. شكل كلاسيكي بري، لحدود ملتهبة، لحرب استنزاف في الجليل بين الحزب والإسرائيليين. وشكل ما بعد حديث بامتياز في منطقة البحر الأحمر، بين استهداف القطع البحرية أو حمايتها، وبين إرسال المسيّرات والصواريخ الباليستية.
 
صراع طبقي
 
لكن هذه الحرب في البحر الأحمر هي استمرارية للحروب السابقة التي خاضتها جماعة أنصار الله، لأنها ترتبط بمشروع مضي هذه الجماعة في عملية إعادة تشكيلها اليمن ككل طبقاً لمنظارها، وإعادة تشكلها هي لترتبط أكثر بشيء “قومي” من قبيل “جعل اليمن عظيمة من جديد” في محاكاة لشعار دونالد ترامب بقصد ايضاح الصورة. فأن يقول اليمن اليوم أنه بات الطرف الذي يحل ويربط في قضايا الملاحة والتجارة الدوليين، وأنه وبعد احباط الحرب الطويلة على الحوثيين بات مبادرا للمشاركة في حرب مع إسرائيل، وأن تكون الدول التي خاضت الحرب مع الحوثيين لم تدرج اسمها في لائحة التحالف الأمريكي المرتجل الجديد هذا، فهذه دلالات تفيض عن مجرد ربط الحوثيين بإيران، وليس هذا البتة في معرض نفي هذا الربط.

في الوقت نفسه، يحصل هذا وسط مجتمع منكوب بسنوات من الحرب والتجويع، وبتلاشي مؤسسات الدولة المحدودة أساساً فيه. وهذا واقع لا يمكن تجميده أو تنحيته عند الالتفات إلى جيوبوليتيك النزاعات والمواجهات والأخذ والرد في حوض بلدان البحر الأحمر.

بل هو جزء من مفارقة هذا الحوض اللئيمة، وهو أنه يطل من جهة على مشاريع استثمارية طموحة للغاية، ومن شأنها زيادة أهميته الاقتصادية بما يتعدى مجرد المسار الملاحي فيه، وبما من شأنه أن يقلب العلاقة بينه وبين كل من حوضي الخليج والبحر المتوسط من حوض طرفي مقارنة بهما إلى حوض “مركزي”.

لكنه من جهة ثانية يطل – مع امتداده في القرن الأفريقي – على بلدان متداعية، اليمن والسودان واريتريا والصومال. ثمة إذا في حيز ما، “صراع طبقي” بين فقراء وأغنياء هذا الحوض، بشكل يصبح فيه اسم الحلف الحالي “حارس الازدهار” كاشفاً للمشكلة، مشكلة حراسة الازدهار في نطاق جيوبوليتيكي معين، على قاعدة اغفال الاختلاف الحاد بين مقومات الحياة على ضفافه، وهو ما لا يعود فقط لأن البعض انتهج رؤى واقعية، والبعض الآخر يكابر على الواقع.

أن تكون إيران قد استطاعت التشبيك مع كل تناقضات منطقة المشرق والجزيرة العربية والبحر الأحمر فهذا لا يعني أنها اختلقت هذه التناقضات. ثمة في شمال هذا البحر، مسألة فلسطينية، لكن ثمة في جنوبه مسألة يمنية. في الحالتين، كما في حال السودان، يصبح الحديث عن حماية الازدهار نافيا لضرورة حماية “شروط” بناء الازدهار، وهو ما كان يستدعي منذ وقت طويل تشكل منظمة تعاون إقليمي، هذا قبل أن يتشكل “مجلس الدولتين المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن” عام 2020 دون تأمين الدفع اللازم له، لكي يتبنى تصورا شاملا لشتى المشكلات التي يرزح تحتها هذا الحوض، بل حصر الهدف بتأمين الملاحة ليس الا، كما لو كان من الواقعي الملاحة وسط التناقضات مع تحاشي الرسو في مرفأ أي منها.

*نقلا عن القدس العربي
 

التعليقات