ما الذي فعلته "الجزيرة"؟
السبت, 18 مايو, 2024 - 06:38 مساءً

الصحفي والمشاهد العربي، الذي عاش زمن ما قبل "الجزيرة"، يُدرك هذا جيداً: يُدرك بأن لحظات انطلاق بث القناة الإخباري والبرامجي الجريء، وغير المسبوق، كان أشبه بانفجار عظيم في المنطقة.
 
بدت "الجزيرة" في سماء العرب كظاهرة مذهلة وفارقة؛ اقتحمت العقل العربي، وحطمت الصورة النمطية للواقع، وتدفقت المعلومات بشكل هائل في أكثر من اتجاه.
 
تحت تأثير الصدمة، راح البعض يستدعي الأوهام والخيالات، ويستجر نظريات المؤامرة، ويفصل للقناة عديدا من التُّهم.
 
بسبب اعتياد العقل العربي على نمطية معيّنة من الأخبار الجامدة، لذا كان من الطبيعي الارتياب بأن هذا الانفجار صادر عن إمارة خليجية؟.
 
على مدى عقود، ثمة نسق رتيب ومُمل من التناولات الإعلامية الرسمية، وعلى رأس نشرة أخبار المساء فقط، تسمع وتشاهد أخبار جلالة الملك المفدّى، وأصحاب الفخامة الرؤساء.
 
كصحفي، أقدّر أن ظهور "الجزيرة" كان بمثابة ميلاد بعث جديد للحياة، تشعر وكأنّك قبلها كنت تعيش في العصر الحجري.
 
لقد فتحت عيوننا على عوالم جديدة بالصوت والصورة، وذهبت إلى أكثر النقاط الساخنة والمعتمة، وكشفت التابوهات المخفية في عقول النّخب العربية وحكامها؛ أظهرت اختلاف الثقافات، وتناولت إيقاع الحياة في كل مكان.
 
الحقيقة، لقد كسرت إيقاع الحياة الرتيب، وفتحت ملايين الفرص للإعلاميين العرب بعد أن تدفق الإعلام الفضائي المتنوّع والمختلف، وطرق وسائل وأساليب الإعلام الجديد.
 
لقد بنت "الجزيرة" عالما من المفاهيم الجديدة لم تكن معروفة في عالمنا العربي، وكبرت معنا، وذهبت إلى أبعد زوايا الأحداث في المنطقة والعالم.
 
غطّت الغزو الأمريكي للعراق، وحرب الولايات المتحدة في أفغانستان، بحِرَفية عالية.
صارت مصدرا لكبريات وسائل الإعلام الغربية بعد أن كنا نتابع لمدة ثوانٍ مشهدا عاما لإطلاق صاروخ نقلا عن "سي إن إن" الأمريكية.
 
بنت إرثا عظيما من المعلومات والمشاهد في أكثر البؤر سخونة وتدميرا في العالم، وهذا ما لا يمكن تجاهله بسهولة.
 
بسبب تغطياتها الأخيرة بشأن الحوثيين وهجماتهم في البحر الأحمر، أو هنا وهناك، محظور الوقوع فريسة للأوهام ونظريات المؤامرة مرّة أخرى.
 
الاحتلال، وهو يخوض حربا وجودية في غزة، أعلن مؤخرا إغلاق بث القناة. رد الصحفيون في تل أبيب، بصوت واحد، لا للقرار. اعتبروا أن كيانهم المحتل يستهدف الديمقراطية وحرية التعبير. قالوا "يجب أن نقلق على الجزيرة؛ لأن القرار التالي فوق رؤوسنا".
 
هذه طريقة صحية للتفكير الحر، وللصحفيين الذين اعتادوا العيش في بيئة تقدس الحريات بعيدا عن هاجس نظريات المؤامرة وزوّار الليل.
 
هناك حقيقة ماثلة للجميع، وليس أول ولا آخر من أكدها مقدم أشهر برامج القناة إثارة للجدل، فيصل القاسم، وهي أنه "لا يوجد إعلام محايد مائة في المائة حتى في أعرق بلدان الديمقراطية".
 
لماذا علينا استدعاء الحياد بمثاليته المفرطة في كل تناولات "الجزيرة"؟

التعليقات