نملك عددا هائلا من "المثقفين السائلين" في اليمن، خصوصا في هذه المرحلة التي يعيش فيها بلدنا واحدة من أسوأ المراحل في تاريخه.
وهنا نقصد بالسائلين ليس الذين يسألون الناس أو يقدمون أسئلة للبحث عن جواب، بل كلمة مشتقة من "سائل" وهي معاكسة لكلمة صلب.. أي أن عصر الثقافة الصلبة القوية ربما لم يعد لها مكانا في اليمن!
ومفهوم الثقافة السائلة خاص بعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان الذي توفي عام 2017، بعد أن ألف سلسلة كتب مهمة تتحدث عن "زمن السيولة" بما في ذلك "الثقافة السائلة".
ويقصد هذا المفكر الشهير بالسيولة تلك المواد السائلة التي تختلف عن المواد الصلبة وذلك لعدم قدرتها على التماسك والثبات، وعدم الاحتفاظ بشكلها ومضمونها، وتعرضها بسهولة إلى التغير السريع نتيجة عوامل محيطة.
وبالنظر إلى الواقع اليمني حاليا، نجد كمية هائلة من "المثقفين" الذين يتحدثون عن كل شيء ويناقشون في كل مجال ويجادلون في كل صغيرة وكبيرة سواء داخل البلاد أو خارجها.
واستغل الكثيرون مواقع التواصل الاجتماعي في سبيل نشر قناعاتهم وأفكارهم، وتحول البعض منهم فجأة إلى ناشط يدلي برأيه في معظم الأشياء، معتبرا نفسه مثقفا يجب على الجميع أن يسمع لوجهة نظره وموقفه في قضية ما.
وبدلا من أن يكون هناك نشاط فكري ثقافي فعال للمثقف اليمني مثل كتابة مقالات أو أبحاث معمقة، تحول الكثيرون إلى نشر منشورات أو صور أو مقاطع فيديو بما يتوافق مع متطلبات ورغبات العوام، وربما هذا المسار ناجم على ظروف نفسية وأمنية عقدت حرية القول الواعي والفعل الهادف.
واللافت أن العديد من المثقفين باتوا ينقادون إلى اهتمامات ورغبات العوام ويوجهون أفكارهم وفقا لذلك، وتحول المثقف من قائد وخالق رأي عام وصانع فكر إلى خادم لرغبات العوام.
وبدلا من أن يكون المثقف على قدر كبير من الصلابة في الرأي والموقف والفكر، نجد ثمة من يتغير موقفه وفكره وحتى مبدئه وفقا لتقلبات "السوق الثقافي" وبحسب المصالح الذاتية أو إعجابات الجمهور العام، وربما يتغير الموقف نتيجة تعليقات في مواقع التواصل.
وكذلك، بدلا من أن يكون المثقف مصدر تنوير وتوعية للجمهور في قضايا وشؤون متعددة كما كان في الزمن الصلب، تحولت وظيفته إلى مجرد إغواء وإلهاء في هذا الواقع السائل المتغير بين لحظة وأخرى.
انغمس الكثير من المثقفين في مواقع التواصل الاجتماعي، وغرقت أفكارهم وتلاشت أهدافها إلى الحد الذي بات فيه المثقف يسعى فقط إلى تحقيق قدر عال من الإعجابات أو المشاهدات.
وبحثا عن "الترند" تورط بعض المثقفين في صنع سلوكيات وإنتاج معرفة لا تمت بأي صلة للفكر العميق أو الثقافة الصلبة، بل تم التماهي تماما مع العوام، بحيث لا تستطيع أن تفرق بين فكر المثقف أو العامة.
وفي ظل هذه المرحلة السائلة، قل أن تجد "مثقفين عضويين" لهم فاعلية ودور إيجابي في تنوير الجمهور وتوعيته وخلق رأي عام مشرق.
وهنا من المهم التفريق بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي، فالأول وفقا للفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي(ت عام 1937) هو الذي يشكل وعي الجماهير ويقودها في سبيل قيم الحرية والعدالة والفكر، وهو من يكون منظرا ومنخرطا في الواقع ومتصلا بهموم الناس وأحلامهم بعيدا عن مصالح السلطات أو المصالح الذاتية، بعكس المثقف التقليدي الذي ينعزل عن هموم الناس وقضاياهم ويعيش وفقا لمصالحه الآنية وتماهيه مع السلطات على حساب البسطاء وحقوقهم.
واللافت أن الكثير من المثقفين عزلوا أنفسهم عن قيادة الرأي العام والعمل من أجل خلق تحول فكري وثقافي يخلق حراكا فعليا بما يؤدي إلى إعادة إنتاج واقع جديد صلب يقاوم الظروف الصعبة الحالية ويدفع نحو حلها.
وبدلا من أن يكون للمثقف دور فاعل في تشكيل الواقع، نلحظ كيف أن الساسة والعسكر فقط هم من يقودون البلد ويشكلون حاضره ومستقبله بعيدا عن أحلام وطموحات الناس، بينما انقسم المثقفون بين تابع لهذا الطرف السياسي أو ذاك، أو الانعزال التام عن الواقع بدعوى"الحياد" سعيا وراء "راحة الدماغ" أو سلامة الروح والجسد!
والمحزن أن العديد من المثقفين باتوا مجرد مستهلكين للمعرفة المنشورة أو التي يتم بثها من قبل العوام أو الساسة والعسكر، بدلا من أن يكونوا منتجين للمعرفة وصانعين لها، وهو أمر معاكس لما يفترض أن يكون.
وفي هذا الزمن السائل، تصدر المشهد العام أناس لا علاقة لهم بالفكر النير والثقافة الحية، بل جل ما يميزهم قدرتهم على إغواء الجماهير الذين يفكرون بعواطفهم فقط، وقد استغل هؤلاء الفراغ الذي تركه المثقفون والمفكرون وقاموا بملئه بكميات هائلة من المعرفة الاستهلاكية التي باتت بمثابة وجبات يومية يستهلكها العوام يوميا كغذاء لمشاعرهم وسط جفاء واضح للعقول.
وفي الوقت نفسه، باتت العقول المستمرة في التفكير تعاني من علل متعددة، نتيجة تلقيها أغذية معرفية ضارة قد تؤدي في بعض الأحيان إلى تدمير الأدمغة، وكله بسبب غياب الغذاء المعرفي الصحي الذي يفترض أن يصنعه المثقفون والمفكرون!