الغربة تجربة صعبة ومليئة بالتحديات، لكن المدن التي تحتضننا في بداياتنا تظل محفورة في ذاكرتنا إلى الأبد. بالنسبة لي كانت مدينة Vivier-au-Court أول محطة حقيقية لي في فرنسا، حيث عشت فيها أيامي الأولى بكل ما حملته من صعوبات وتحديات.
لم أكن أعرف عنها شيئًا، ولم تكن لدي لغة تمكنني من التواصل مع الناس، لكن هذه المدينة الصغيرة، رغم بساطتها، كانت شاهدة على واحدة من أهم الفترات في حياتي، حيث تعلمت فيها معنى الصداقة الحقيقية والتضامن الإنساني.
قبل أن أصل إلى هذه المدينة، كنت قد قضيت فترة في مدينة ستراسبورغ، (عاصمة الإتحاد الأوربي)، حيث كنت في ضيافة صديقي العزيز شذوان. كان الطقس هناك قارس البرودة، وهو أمر لم أكن معتادًا عليه، وكنت أرتجف من البرد، مما جعلني أرتدي كل ملابسي حتى أثناء النوم، خاصة وأن التدفئة كانت تعمل بالكهرباء، ما يعني أن التكلفة باهضة جدا. خلال تلك الفترة، اعتدت على النوم مبكرًا، وهي عادة جديدة تعلمتها من شذوان بعد أن كنت أسهر لساعات طويلة.
بعد فترة من الانتظار، تلقيت اتصالًا من مكتب الهجرة، حيث أبلغوني بأنه لا توجد أماكن متاحة للسكن في ستراسبورغ، لكن هناك فرصة للإقامة في مدينة صغيرة تدعى Vivier-au-Court، ضمن سكن تديره منظمة AFTAR. لم يكن لدي خيار سوى الموافقة. ودعت أصدقائي هناك – شذوان، أحمد، عبد الله، سامي وعلي الكبسي – بحزن شديد، فقد كنت قد ألفت المدينة وأحببت العيش فيها، لكن كان عليّ أن أبدأ فصلاً جديدًا في مكان آخر.
استغرقت الرحلة بالقطار حوالي خمس ساعات من ستراسبورغ إلى Charleville-Mézières، حيث وصلت في المساء. في المحطة، استقبلني شخص يحمل لوحة بيضاء مكتوب عليها اسمي بالفرنسية، وتعامل معي بكل لطف، لاحقًا عرفت أنه أحد العاملين في منظمة إنسانية مكلفة باستقبال المهاجرين.
قادني إلى مبنى سكني ضخم، بدا لي أشبه بسفينة تجارية عائمة وسط البحر. لاحقًا، علمت أنه كان مخصصًا لاستقبال وإيواء المهاجرين. في غرفة الاستقبال، تم تسجيل بياناتي، ثم طُلب مني التوجه إلى الطابق السادس، حيث التقيت بمهاجرين من جنسيات متعددة – من الكاميرون، مالي، النيجر، أفغانستان، إيران، رومانيا، وأرمينيا – كل واحد يحمل قصة مختلفة، لكننا جميعًا كنا نبحث عن بداية جديدة أو بعبارة أخرى نبحث عن وطن.
في صباح اليوم التالي، جاءت شابة لطيفة لتعريف نفسها وأخبرتني أنها ستأخذني إلى Vivier-au-Court، حيث سيكون سكني الجديد. عند وصولي، قابلت مديرة السكن، التي أرشدتني إلى غرفتي، لأبدأ مرحلة جديدة من العزلة والصمت.
كانت غرفتي تقع في الطابق الثاني من ذلك المبنى، ضمن مجموعة كبيرة من الغرف التي يربطها ممر طويل جدًا. في نهاية الممر، كانت هناك دورات مياه مشتركة بالإضافة إلى مطبخ يستخدمه جميع السكان. أتذكر جيدًا أن كل الغرف في هذا الطابق كانت مأهولة بأشخاص من جنسيات مختلفة، مما جعل المكان أشبه بعالم صغير داخل مبنى واحد.
على يمين غرفتي، كان يقيم شاب من الكاميرون، بينما كان جاري من الجهة اليسرى شابًا أفغانيًا، وإلى جواره كان هناك فرنسي. في الجهة المقابلة لغرفتي، كان يسكن شاب روسي، وإلى جواره رجل من أرمينيا وآخر من أذربيجان. في الغرف الأخرى، توزّع السكان من دول وجنسيات متعددة، لكل منهم قصته الخاصة وظروفه التي دفعته إلى هذا المكان.
مع مرور الوقت، بدأت بالتعرف عليهم، وكل واحد منهم قدّم نفسه بطريقته الخاصة، بلغته، وبأسلوبه الفريد. كان مشهدًا مدهشًا؛ أن تجد نفسك فجأة وسط هذا التنوع الهائل من اللغات والثقافات، بين أشخاص جاؤوا من مختلف أنحاء العالم، جميعهم يبحثون عن وطن جديد أو هربوا من أوطانهم بسبب الحروب، أو سعوا وراء حياة أكثر استقرارًا وكرامة.
في الطوابق العلوية، كانت تقيم العديد من العائلات المهاجرة مع أطفالها، ما جعل المبنى يعجّ بالحياة طوال الوقت. كان الزحام كبيرًا، والحركة لا تتوقف، لدرجة أنه بدا أشبه بمدرسة ثانوية مكتظة بالطلاب. بعض المهاجرين كانوا قد أمضوا في هذا المكان سنوات طويلة بانتظار الحصول على اللجوء، بينما كان هناك آخرون قد تم رفض طلباتهم، يعيشون في حالة من القلق وعدم اليقين.
لم تكن الحياة هنا تخلو من التوتر، فقد كنت أرى الشرطة تأتي بين الحين والآخر، إما بسبب خلافات تنشب بين السكان، أو لحل مشكلات طارئة، وأحيانًا لتنفيذ قرارات الترحيل بحق من رُفضت طلباتهم. كنت أسمع خطوات الجنود وهم يمرون عبر الممر، وكان لذلك وقعٌ ثقيل على النفس، إحساس بعدم الأمان، وكأن المكان كله يتحول فجأة إلى ساحة انتظار لمصير مجهول.
في البداية، وجدت صعوبة في التأقلم مع هذا النمط من العيش. كنت أشعر بالضياع والتشتت، أسأل نفسي باستمرار: أين كنت؟ وأين أصبحت؟ كان عليّ أن أكسر حاجز الخوف وأتعايش مع هذا الواقع الجديد.
لكنّ التحدي الأكبر لم يكن فقط في التأقلم، بل في التعامل مع التفاصيل اليومية غير المألوفة، مثل الإزعاج المستمر الذي كان يأتي من الغرفة المجاورة. كان جارِي كثير السهر، يستقبل ضيوفًا بصخب مما كان يسبب الكثير من الضجيج في منتصف الليل.
كانت هذه الغرفة مجرد مساحة صغيرة بين أربعة جدران، لكنها حملت في داخلها قصصًا لا تُحصى، قصص أناس تركوا أوطانهم، وعاشوا على أمل العثور على بداية جديدة.
لم تكن المدينة كما توقعت، بدت أشبه بقرية صغيرة أكثر منها مدينة، تحيط بها المزارع، وتبدو وكأنها معزولة عن ضوضاء المدن الكبرى. وسائل المواصلات كانت محدودة جدًا – حافلة واحدة صباحًا وأخرى مساءً – مما جعلني أشعر وكأنني محاصر داخل السكن معظم الوقت. في الأيام الأولى، شعرت بوحدة قاتلة، فلم يكن هناك الكثير لأفعله، ولم يكن لدي معارف أو أصدقاء بعد.
لكن القدر كان يحمل لي مفاجأة جميلة، ففي أحد الأيام، التقيت بامرأة في أحد المراكز المخصصة لمساعدة المهاجرين. كانت تتحدث عبر الهاتف، وعلمت أنها جاءت لمساعدة أحد جيرانها في المبنى لأنه لا يمتلك سيارة. طلبت منها إحدى الموظفات أن تترجم لي اللقاء، فوافقت بكل لطف وترحاب، ثم أخبرتني أنها ستعرفني على زوجها، عز الدين، لأنه يتحدث العربية بطلاقة أكثر منها كونه مولودًا في الجزائر.
بعد دقائق، اتصلت هي بعز الدين، الذي حضر بسيارته فورًا، وهناك بدأت دائرة معارفي تتسع. عرّفني عز الدين على أصدقاء رائعين مثل كمال، يوسف، سليم، عنتر، عبد القادر، والعم سعيد، الذي كان يملك منزلًا جميلاً على تلة تطل على المدينة. شيئًا فشيئًا، توطدت علاقتي بهم، وتحولت الغربة من مكان موحش إلى بيت دافئ مليء بالصداقات واللحظات الجميلة.
لم يقتصر الدعم على الأصدقاء فقط، بل شمل أيضًا أشخاصًا آخرين من الفرنسيين والفرنسيات وما أكثرهم وانبلهم، خصوصا أولئك الذين يعملون في المنظمات ذات العلاقة بالمهاجرين.
بالإضافة إلى السيدة العظيمة نادية، التي ساعدتني كثيرًا في تلك الفترة.
لا أنسى كيف كانت تأخذني بسيارتها إلى أحد الأسواق المحلية لشراء لوازم المطبخ من سوق الأدوات المستعملة، حيث ساعدتني في اختيار ما أحتاجه. كانت ترافقها ابنتاها، رانيا، التي تدرس الطب حاليأ ، وآية، التي على وشك التخرج من الثانوية.
كانت لحظات مليئة بالدفء واللطف تعكس روح العطاء التي وجدتها في هذه المدينة.
على مدار الأشهر التي قضيتها في Vivier-au-Court، مررت بتجارب متنوعة، بعضها كان طريفًا، وبعضها أضاف إليّ دروسًا قيّمة. من بين هذه التجارب، أذكر رحلاتي إلى الحدود البلجيكية مع كمال، حيث كنا نذهب لشراء السجائر وتعبئة الوقود. كان كمال مدخنًا شرهًا، وكثيرًا ما كان يطلب مني مرافقته في هذه الرحلات، التي تحولت إلى مغامرات غير متوقعة.
كما لا أنسى زيارات الأسواق الشعبية يومي السبت والأحد مع العزيز يوسف، ومصطفى، وعبد الحكيم، وعنتر ، حيث تباع كل الأشياء المستعملة بأسعار زهيدة. كانت هذه الأسواق مليئة بالمقتنيات القديمة والنوادر، وشكلت لي فرصة لاكتشاف ثقافة المجتمع المحلي عن قرب.
أما التجربة الأهم، فكانت يوم استلامي للأوراق. كان ذلك اليوم مليئًا بالمشاعر المختلطة. ذهبت مع عز الدين بسيارته إلى مدينة Charleville-Mézières للاستفسار عن ملفي، فحدث سوء تفاهم بينه وبين الموظفة، مما جعلها تطلب منه إبراز أوراقه. أخبرتنا أن هناك تطورًا في ملفي، لكن علينا الذهاب إلى مدينة أخرى لاستكمال الإجراءات.
في اليوم التالي، انطلقنا فجرًا. عندما وصلنا، بدت الموظفة المسؤولة بشوشة ومتعاونة، لكنها قالت إنها تحتاج إلى بعض الأوراق التي كان يفترض أن تُرسل بالبريد من المدينة الأولى. انتظرنا قليلًا، ثم نادتني بابتسامة: "مبروك، لقد وصلت أوراقك." كان ذلك اليوم لحظة فارقة ومهمة بالنسبة لي.
بعد عام حافل في Vivier-au-Court، حان وقت الانتقال إلى مدينة أخرى. لكني لم أرحل وحدي، بل جاء عنتر بسيارته، وقطع معي تلك المسافة الطويلة دون أي مقابل سوى الصداقة الخالصة.
في مدينتي الجديدة، حاولت تكوين صداقات كما فعلت في Vivier-au-Court ، لكني لم أجد أصدقاء بروح وطيبة أولئك الذين عرفتهم هناك.
أعيش الآن في مبنى يقطنه أغلبه من الأتراك، بالإضافة إلى عائلتين مغربيتين. منذ اليوم الأول كنت حريصًا على التعرف على جيراني وخلق أجواء من الألفة، لكنني وجدت أن الاندماج معهم لم يكن سهلا. بدا لي أنهم يفضلون البقاء ضمن دائرتهم الخاصة، وربما يعود ذلك لاختلاف العادات أو اللغة لكنني شعرت بصعوبة في بناء جسور التواصل معهم كما كنت أتمنى.
قد تأخذنا الحياة إلى أماكن جديدة، لكن بعض المحطات تبقى محفورة في الذاكرة، لأنها لم تكن مجرد أماكن، بل كانت أوطانًا صغيرة زرعت فينا الحب والانتماء.
* Vivier au court
هي بلدية فرنسية تقع في قسم آردين في منطقة غراند إيست، وتقع على الحدود مع بلجيكا. (ويكيبيديا).