في عام 2005 أي قبل تسعة عشر عاما، نظمتُ برفقة عدد من الزملاء الصحفيين زيارة ميدانية إلى مديرية جبل الشرق بمحافظة ذمار، جنوب العاصمة صنعاء. كانت الزيارة بدافع إنساني ومهني، هدفها تسليط الضوء على معاناة منطقة ظلت لعقود خارج حسابات الدولة، رغم أهميتها وعمقها التاريخي في مؤسستي الجيش والأمن.
قبل أيام، وبينما كنت أتصفح في الإنترنت، صادفت الاستطلاع الذي أعده الزميل العزيز أشرف الريفي عقب تلك الرحلة. قراءته بعد تسعة عشر عامًا كانت كمن يفتح نافذة على الماضي، تدفقت منها لحظات، ومشاهد، وأصوات، وكأن الزمن لم يمضِ.
راودني شعور بأن الكتابة هنا ليست خيارا، بل شهادة واجبة. فهناك تفاصيل لا تزال حيّة في الذاكرة، تستحق أن تُروى كما كانت بلا رتوش.
هذه المادة ليس تحليلًا للواقع الحالي، بل شهادة على لحظة صحفية عايشتها في وقتٍ كان فيه للإعلام صدى، ولصوت الناس قيمة. إنها حكاية عن الأمل الذي سكن وجوه الناس يومها، والخذلان الذي تكرّس لاحقا.
كان مشروع طريق معبر – الجمعة – مدينة الشرق حينها من أبرز القضايا التي تشغل أبناء تلك المنطقة ومناطق أخرى. مشروع حيوي، لو كُتب له التنفيذ وفقا للمواصفات، لربط بين ثلاث محافظات وخمس مديريات، ولغيّر وجه الحياة في المنطقة بشكل جذري.
لكنه ظل معلقا، مؤجلا، كحال الكثير من المشاريع التي تتعثر في طريق اللامبالاة. وبعد سنوات، جرى تنفيذ المشروع، لكن بطريقة لا تمت بصلة للمقترحات والدراسات التي أعدها مهندسون ومختصون.
جاء التنفيذ محدودا، بجودة متدنية، وطريق ضيقة لا تلبّي الحد الأدنى من احتياجات المنطقة، وكأن المشروع نُفذ فقط لرفع العتب.
اللافت أن هذا المشروع لم يكن وليد تلك المرحلة فقط، بل إن حجر الأساس لتنفيذه وُضع في عهد الرئيس المغدور إبراهيم محمد الحمدي، الذي زار المنطقة بعد فترة قصيرة من توليه مقاليد الحكم. وقد وجه حينها بسرعة تنفيذ المشروع، وبدأ العمل عليه بالفعل، إلا أنه توقف عقب اغتياله بتلك الطريقة الوحشية التي هزت وجدان اليمنيين.
لاحقا، وفي عهد الرئيس علي عبد الله صالح، أُعيد إدراج المشروع ضمن قائمة المشاريع المعتمدة للتنفيذ، لكن ذلك لم يُترجم إلى واقع. ثم تكررت الوعود في عهد نائبه حينها، عبد ربه منصور هادي، الذي زار المنطقة ووجّه – بحسب روايات الأهالي – بسرعة تنفيذ المشروع. ومع ذلك، بقيت التوجيهات حبيسة الأدراج، وبقي الحال على ما هو عليه.
جاءت الدعوة للزيارة في رمضان، وكنتُ من تولى مهمة التنسيق، مدفوعًا بثقتي في تأثير الإعلام، وبأن الرسالة الصادقة قد تجد آذانا صاغية، خاصة في تلك الفترة التي كانت الدولة – رغم كل عيوبها – لا تزال تتابع ما تنقله الصحافة الورقية.
بدأت بالتواصل مع عدد من الزملاء من صحف مختلفة، وشرحت لهم الهدف من الزيارة: أن ننقل صوت الناس، وأن نكتب عن منطقة أُهملت طويلًا. والحقيقة أنني وجدت منهم تفاعلًا طيبًا، أكثر مما كنت أتوقعه.
على الجانب الآخر، بدأتُ بالتنسيق مع أبناء المنطقة، وعلى رأسهم الدكتور محمد المرتضى (رحمه الله)، الذي كان يشغل حينها منصب مدير مكتب الصحة، وأحد أبرز الكوادر الصحية في المحافظة.
أبدى استعداده التام للتعاون والتنسيق للزيارة، مؤكدًا اهتمامه بمشروع الطريق ومتابعته له عن قرب.
كما تواصلت مع عدد من التربويين والوجهاء والأعيان وغيرهم، وطلبت منهم التواصل مع الناس من أجل التحدث إلى الصحفيين ونقل معاناتهم، وتسليط الضوء على الصعوبات التي يواجهونها بسبب غياب الخدمات، ومن بينها مشروع الطريق.
في تلك المرحلة، فضلنا عدم التواصل مع عضو مجلس النواب، الشيخ محمد المقداد (رحمه الله)، وحرصنا على ألا يتم إخطاره بهذه الزيارة، وذلك بناءً على اقتراح من إحدى الشخصيات في المنطقة، ولأسباب تتعلق بالعلاقة الوثيقة التي كانت تربطه بمالك ومدير الشركة المنفذة للمشروع (شركة معصار سلاب للمقاولات). ومع مرور الوقت، أجدني أشعر بشيء من الندم، إذ لم يكن من الصواب أن نتبنى وجهة نظر واحدة ونتجاهل الأخرى.
ومع ذلك، وهذه شهادة للتاريخ، فقد كانت له بصمات واضحة في دعم ومتابعة عدد من المشاريع في المنطقة، وكان له حضور لا يمكن إنكاره.
غادرنا العاصمة صنعاء وقت الظهر، وكنت أشعر بحالة زهو منقطع النظير. كان الاتفاق أن يتم استقبالنا قبيل المغرب أو بعد العصر، لنتحدث مع الناس، ونستمع إليهم، ونلتقط صورًا للمعدات التابعة للشركة المنفذة للمشروع، والتي كانت متوقفة، في حين قيل لنا إن العدد الأكبر منها قد تم سحبه لتنفيذ مشاريع أخرى كانت قد رست على الشركة.
على امتداد الطريق، بدأ الزملاء بتصوير الطرقات، والمزارعين، والسيارات، والأطفال الذين يمرون بجانب الطريق، والناس الذين كانوا ينقلون المياه على ظهور الحمير، في مشهد يعكس حجم المعاناة.
أثناء الطريق، حاولت التواصل مع الأشخاص الذين سبق أن أبدوا استعدادهم لاستقبالنا، ومن بينهم الدكتور المرتضى، لكنني فوجئت بأن هواتفهم جميعًا مغلقة. لاحقًا، علمت أن الدكتور المرتضى قد تم استدعاؤه بشكل عاجل لحضور اجتماع في المحافظة، أما الآخرون، فلم أعرف ما الذي تغير وجعلهم يختفون فجأة.
شعرت باستياء وحرج شديدين عندما تعذر التواصل مع من نسقنا معهم مسبقًا، لكن طرأت لي فكرة الاتصال بالأستاذ القدير أحمد الحِيسة، الذي كان يعمل آنذاك مع محافظ ذمار السابق، عبد الوهاب الدرة. كان ردّه سريعًا وحاسمًا: "أهلًا وسهلًا بكم، نحن في انتظارك أنت وزملاؤك." لم يتردد لحظة في فتح بيته لنا في قرية جبل الشمة، المطلة على مركز المديرية، وكانت استضافته لنا دافئة كجبال المنطقة الشامخة.
استقبلنا الأخ أحمد الحيسة ومعه عدد من الأهالي ، وسرعان ما تجمع الناس من أماكن مختلفة، وبدأوا بالحديث عن تعثر مشروع الطريق والمشاريع الأخرى، إضافة إلى عدد من القضايا الخدمية. لا أنسى كيف توافد الناس من كل مكان، وكيف أن بيت الحيسة، ذلك البيت الجميل المرتب الواقع في أعلى تبة الجبل، قد اكتظ بالحاضرين، في مشهد عكس تعطش الناس لوجود الدولة والخدمات. والمشاريع الأخرى، إضافة إلى عدد من القضايا الخدمية.
لمست حينها تعطش الناس لوجود الدولة من خلال الخدمات التي يفترض أن تكون متاحة لهم، رغم أن معظم أبناء تلك المناطق ينتمون إلى الجيش والأمن، بما في ذلك أفراد من حراسة الرئيس السابق علي عبد الله صالح.
في الاستطلاع الذي أعده الزميل العزيز أشرف الريفي من موقع وصحيفة (الوحودي)، وصف المنطقة بأنها "مدينة الجنود التي لم تعرف الثورة بعد"، وكان محقًا إلى حد بعيد، فهذه المناطق التي يقطنها أفراد الجيش والأمن كانت محرومة من أغلب المشاريع التنموية. والمفارقة أن خطوط الكهرباء التي تغذي عدة محافظات، بما في ذلك العاصمة صنعاء، تمر عبر أراضيهم، ومع ذلك لا يزالون يعتمدون على الفوانيس والطرق البدائية للإضاءة.
فيما يتعلق بدور مشائخ المنطقة، أتذكر تحسر بعض الأهالي عندما سألناهم عن دورهم في هذا الجانب، باعتبار أن السلطة كانت ولا تزال تتجاوب مع المشائخ والنافذين، وهناك من يصفها بـ"دولة المشائخ". قال أحدهم: "لدينا واجهات قبلية من أكبر مشائخ اليمن، لكن ضعفاء، ومنهم من أصابه الكبر والغرور، ومنهم من تم تهميشه، والبعض اكتفى بتسوية أوضاع أقاربه وأولاده فقط."
وتذكرت معاناة أقارب العقيد الركن يحيى صالح العيزري، قائد كتيبة التلفزيون، الذي تم اختطافه من قبل الحوثيين عقب اقتحامهم لمبنى التلفزيون بعد سيطرتهم على صنعاء في العام 2014. لقد تم تغييب العقيد العيزري، ولا يزال مصيره مجهولًا حتى اللحظة، فيما مشائخ هذه المنطقة لم يحركوا ساكنًا. يصفهم البعض بمشائخ المناسبات والأعراس فقط.
حفاوة استقبال الناس لا يمكن أن تُنسى. ما زلت أتذكر كيف جاء الناس من أماكن بعيدة عندما علموا أن هناك صحفيين زاروا المنطقة، وهي أول مرة يزورها فيها فريق صحفي بهدف نبيل هو الاستماع إلى الناس ومعرفة معاناتهم. بقينا في ضيافة الحيسة حتى بعد منتصف الليل، وغادرنا المكان فيما الحشود ما تزال تتوافد رغم أن الوقت كان متأخرًا، بالإضافة إلى أنه كان شهر رمضان، ومعظم الناس يعملون في الزراعة ومهن تتطلب أن يصحوا مبكرًا، إلا أنهم بقوا معنا حتى مغادرتنا.
نظرات الناس إلينا في تلك اللحظات كانت تحمل شعورًا عميقًا، وكأننا رسل أو فاتحين، كانوا متعطشين لأي أمل بالخدمات. الكرم والبساطة التي تعامل بها الناس معنا كانت استثنائية، وقد حاول مضيفنا الكريم أن نبقى حتى اليوم التالي، لكن لم يكن هناك متسع من الوقت نظرًا لارتباط عدد من الزملاء بأعمالهم.
ونحن في الطريق، دار بيننا نقاش طويل حول ما شاهدناه وكيفية نقل الصورة إلى الناس عبر الصحف. اتفقنا أن يكتب كل واحد منا مادته الصحفية بالشكل الذي يراه مناسبًا، واقترحت أن يتم النشر بشكل متسلسل وليس دفعة واحدة، وهو ما تم بالفعل.
أما أنا، فكنت أحرص على توصيل ما يُنشر في هذه الصحيفة أو تلك إلى الجهات المعنية، مثل مصلحة الطرق وغيرها، كما واصلت التواصل مع مكتب المقاول (شركة معصار)، وكنت أشتري نسخًا متعددة من الصحف لتوزيعها على الجهات ذات العلاقة. ما زلت أحتفظ بعدد من تلك النسخ في اليمن حتى اليوم، رغم مرور ما يقارب العقدين.
لم أكن أترك برنامجًا إذاعيًا أو تلفزيونيًا أو منبرًا يناقش المشاريع التنموية إلا وساهمت فيه. كنت أؤمن أن هذا واجب ينبغي القيام به، وأن الاستمرار في المتابعة قد يصنع فرقًا.
رغم الجهود التي بُذلت، لم تتغير الأوضاع كثيرًا. ومع ذلك، تظل التقارير الصحفية التي كُتبت عن المشاريع المتعثرة، بما في ذلك الطريق والكهرباء وظروف حياة السكان، من الوثائق المهمة التي توثق معاناة هذه المناطق المحرومة.
تحدث الناس عن حالة الإقصاء الذي وصفوه بالمتعمد من قبل الدولة، وقال عدد منهم إن التمييز وصل إلى درجة أن أبناءهم لم يعودوا يُقبلون في الكليات العسكرية والأمنية، باستثناء محدود لأبناء المشائخ، في الوقت الذي يُقبل فيه أبناء من محافظات أخرى بسهولة. قال أحدهم: "نحن وأولادنا نقبل كجنود فقط، وهذه ليست عدالة."
وأضاف آخر: "عدد من تم قبولهم في الكليات العسكرية والأمنية من مديرية جبل الشرق وباقي مديريات آنس خلال السنوات الماضية لا يتجاوز عدد الأصابع. وقِس على ذلك المنح الدراسية، فهناك تهميش واضح ومتعمد."
إذا كنا نتحدث عن غياب الخدمات قبل عقدين، رغم وجود الدولة آنذاك، فكيف هو الحال اليوم في ظل غياب الدولة من الأساس؟ لقد دخلت البلاد في دوامة حرب منذ سقوط العاصمة صنعاء في قبضة مسلحي جماعة الحوثي في ديسمبر من العام 2014، واستمرت الصراعات حتى اللحظة.
لم يعد هناك أي دور لا للمشائخ ولا لغيرهم. لقد التهمت الجماعة كل شيء، ولم تبقِ لا لهم ولا لغيرهم أي مكانة أو وزن.
وهكذا، تبقى الزيارة التي قمنا بها في 2005 شاهدًا على واقع ما زال قائمًا، ومعاناة ما تزال حاضرة، وأملًا لم يتحقق بعد. وختامًا، وبعد كل هذه السنوات التي مرت، أتمنى أن تتوقف طبول الحرب، وأن ينتهي الانقلاب وتعود الدولة، وبعودة الدولة سوف تعود الحياة إلى وضعها الطبيعي.