المهنية الضائعة
الاربعاء, 02 ديسمبر, 2015 - 01:37 مساءً

صديق ماليزي عزيز وهو عميد كلية الطب في جامعة سيبرجايا للعلوم الطبية وهي واحدة من أرقى الجامعات الماليزية في مجال الطب طلب مني إلقاء بعض المحاضرات في مجال تخصصي لطلبة كلية الطب ورحبت بذلك وتعمدت في نهاية كل محاضرة أن اسأل الطلبة هذا السؤال: من هو وزير التعليم العالي لديكم في ماليزيا؟ نفس السؤال سألته لمجموعة من أعضاء هيئة التدريس ثم سألت العميد نفسه وكانت المفاجأة لا أحد منهم يعرف أسم وزير التعليم العالي في ماليزيا. سألت عميد الكلية عن سبب جهلهم باسم وزير التعليم العالي فكان رده بأنهم ناس مهنيين يهتمون فقط بالعلوم الطبية ولا يهتمون بالسياسة وقال لي لو سألت نفس السؤال لطلبة وأعضاء هيئة التدريس في جميع كليات الجامعة لما وجدت أحد يعرفه ولا يريد أحد أن يعرفه ونحن لا نهتم بالسياسة وماذا سأستفيد إذا كان وزير التعليم العلي (س) أو (ص) من الناس ونحن في ماليزيا نعمل بمهنية عالية وكل واحد منا يهتم بكل شيء في مجال تخصصه.
كلمات بسيطة سمعتها من هذا الصديق الماليزي ولكنها كانت لي بمثابة درس عميق لعلنا نستفيد كثيراً منه وكلماته ظلت تتردد في ذهني لما لها من معاني كثيرة وكبيرة وبدأت أقارن طلبة وأساتذة الجامعات في ماليزيا وهي دولة تعتبر متحضرة جداً مقارنة ببلادي ومعظم الدول العربية ففي بلادنا يفكر كل أفراد المجتمع اليمني تقريباً في السياسة أكثر مما يجب بل ويتدخل كل فرد من أفراد المجتمع اليمني ويقحم نفسه بطريقة فجة وغير معقولة وغير مقبولة في السياسة إلى درجة أن أي عامل بسيط أو أي موظف باستطاعته وخلال دقائق معدودة أن يقوم بتشكيل حكومة كاملة وليس مجرد معرفة أسم وزير التعليم العالي فقط بل يعرف السيرة الذاتية لكل الوزراء ويحفظها عن ظهر قلب ففي جلسات القات (المقايل) يتم تشريح الوضع السياسي للبلاد بشكل تفصيلي ويتم توزيع الانتقادات والاتهامات بشكل جزافي وعشوائي وغير مبني على أسس علمية ويتم وضع الخطط والحلول للمشاكل التي حيرت كبار الاستشاريين وجهابذة المتخصصين يتم حلها في جلسة أو جلستين للقات وطبعاً النتائج كارثية في كاففة المجالات كما نرى بأم أعيننا.
حتى نبني مجتمعنا اليمني بل ومجتمعاتنا العربية بشكل جاد وعملي وبطريقة فعالة نحن بحاجة لأن نمارس المهنية في جميع مناحي الحياة ويجب أن نحترم التخصص فالسياسة لها رجالها الذين درسوا سياسة في الجامعات ثم انضموا إلى أحزاب سياسية ومارسوا من خلالها العمل السياسي وكذلك العمل في مجال الاقتصاد سيقوم به وعلى أفضل حال من هم درسوا الاقتصاد ومارسوا العمل الاقتصادي ولديهم خبرة واسعة في هذا المجال ولا يجوز لغير الأطباء أن يمارسوا مهنة الطب والعسكريون هم أفضل الناس خبرة في مجال الحروب والخطط العسكرية وبناء الجيوش والصناعات العسكرية وكذلك المتخصصون في مجالات الزراعة والاتصالات والفضاء والقضاء والأدب والقانون ...الخ.
أعتقد أن السبب في غياب مفهوم المهنية لدى كافة طبقات المجتمع اليمني والمجتمع العربي ككل هو أن العسكر قادوا بعض هذه المجتمعات لفترة من الزمن ومازال يقودوها في بعض الدول العربية إلى يومنا هذا وهؤلاء العسكر مع احترامنا لهم فإن مفهوم المهنية ومفهوم احترام التخصص يغيب عن معظمهم ويقومون بتعيين عسكريين كوزراء للزراعة والصحة والتعليم والصناعة وكمحافظين وهذا الأمر بدأ في مصر في حقبة الخمسينات والستينات وحتى يومنا هذا وانتقلت العدوى لدينا في اليمن ومعظم الدول العربية وأصبحنا نشاهد الوزير العسكري في العديد من الوزارات المدنية ولا نشاهد أبداً وزير مدني لوزارات عسكرية بل يعتبرها بعض العسكريين أن هذا من المحرمات في عرفهم العسكري, حتى في بعض الدول العربية يرى العسكريين أنه من غير المقبول أن يتم تعيين رئيس جمهورية من المدنيين ولا بد أن يكون من السلك العسكري هذا ما تسبب في نكبة وتدمير العديد من الدول العربية وهذا واقع نعيشه حالياً.
أعتقد بأن وضعنا في اليمن وفي الدول العربية سيتغير كثيراً إذا احترمنا التخصص وأصبح كل واحد في المجتمع يتحدث فقط في مجال تخصصه وأصبحت المناصب في الدولة خاضعة لمعيار التخصص وأتمنى أن يتم التأكيد على هذا المفهوم من خلال وضع بعض المواد الدستورية التي تؤكد وتصب في هذا الاتجاه.

التعليقات