تحيط بالإنسان القديم الذي عاش في الكهف أو ربما عاش قبل حياة الكهف لدى الفلاسفة رؤيتان، تعتقد الأولى أن الإنسان عبارة عن وحش ضار يتحلى بصفات الوحشية والافتراس وعدم الأنسنة والصراع من أجل البقاء، وهو قريب جدا من النموذج الحيواني، وتذهب الرؤية الثانية إلى أن الإنسان مدني بطبعه رقيق في مشاعره، مسالم، ويتألم عندما يرى الآخرين يتعذبون، خاصة إن كانوا من أبناء جنسه وعلى شاكلته.
لقد تبنى فلاسفة أوروبا في عصور التنوير والنهضة هاتين النظرتين، الأولى يمثلها الفيلسوف هوبس، ويعززها آخرون منهم عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، أما الثانية فيؤيدها آخرون أمثال جان جاك روسو.
لهذا يعتقد روسو أن كل ما حدث للإنسان بعد ذلك العهد أفقده القدرة على البقاء نقيا وبريئا.
هاتان الرؤيتان تتعلق بما كان عليه الإنسان في الأصل منذ القدم، منذ أن وطأت قدمه الأرض.
ما طرأ على الإنسان بعد ذلك قاده إلى أن يكون شيئا آخر، ترى النظرة الأولى القائلة بأن الإنسان متوحش بطبعه، لكن إضافات الحياة أو الحضارة والقوانين والمجتمعات ساهمت في تمدين هذا الإنسان، وإخراجه شيئا فشيئا من حالة التوحش والحيوانية والبهيمية إلى حالة الإنسانية، وما الحضارات المتعاقبة إلا لإزالة طباع ذلك الإنسان الأول، ونزع القشرة التي جاء فيها إلى العالم، حين كان يلجأ للعيش في الكهف والغابات بجوار كل الحيوانات الأخرى، ويطارد فريسته ويقترف كل ما لا يستطيع الإنسان الحالي تخيله من أساليب بدائية كان يلجأ لها أجدادنا للعيش على هذه الأرض.
أما النظرة الأخرى فترى أن الإنسان كان على طبيعته الأولى نقيا، وما القوانين والعادات والإضافات البشرية إلا تاريخ طويل لإخراج الإنسان من حالته النقية إلى إنسان اليوم، الجشع والطمع والمُتملك، والمحارب لأخيه الإنسان.
نقاء الإنسان كما يراه روسو كان محط سخرية فلاسفة آخرين، في رسالة لفولتير مخاطبا بها روسو بطريقة تهكمية قال: هل علينا يا روسو أن نترك المجتمعات ونذهب للعيش مع الدببة في الغابات؟.
في المنظور الديني قد لا تتجلى هذه النظرة بشكل واضح، تستعير الأفكار الدينية مصطلحات النزعة الملائكية والشيطانية لدى الإنسان، هذه المفاهيم الدينية لا تتطابق مع المفاهيم الفلسفية السابقة، لكنها تقترب منها وتبتعد بشكل ما.
تفترض الرؤية الدينية أن نزعتين تحركان الإنسان منذ القدم، نزعة الخير ونزعة الشر، وهذا على خلاف المفهوم الفلسفي، لأنه يرى أن الرقي والتوحش خصلتان مغروستان في الإنسان منذ خلقه، وليست أشياء مكتسبة أو تطورات ضرورية تفترضها الطبيعة والبيئة ومراحل الإنسان المتعددة.
شغلت هذه القضايا فلاسفة عصر التنوير والنهضة في أوروبا، خاض فيها الكثيرون جدلا محموما لمعرفة الإنسان في تجلياته الأولية دون أية إضافة، وخاليا من أي تغيير، لمعرفة هذا الإنسان الأول استخدم بعضهم الخيال وشواهد الطبيعة ومقارنة الإنسان بالحيوانات الأخرى من حيث ظواهر الاتفاق والافتراق، واتخذ آخرون طريق التنقيب والبحث والآثار.
كل ذلك لمعرفة كيف بدأ الإنسان يومه الأول في الوجود، ما الذي طرأ عليه، وما هي المراحل التي مر بها ليصير هذا الإنسان الذي نراه اليوم بعد أن أنجز كل شيء من أجل رفاهيته ومجده الذاتي.