جريمة مجتمع كامل
الأحد, 29 ديسمبر, 2019 - 09:17 صباحاً

شكلت إحدى القصص التي هزت أركان المجتمع الأوروبي في القرن الثامن عشر مدخلا لحديث واسع عن قضايا التسامح الديني لدى فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر.
 
ففي فرنسا وتحديدا في مدينة ليغولاند استطاعت قصة تاجر ينتمي الى المذهب البروتستانتي أن تكون إحدى القضايا التي شغلت بال المجتمع لسنوات طويلة، بسبب أحداثها المأساوية.
 
تاريخ الشعوب المشرق لا يبتدئ إلا على أنقاض ملايين الضحايا، والخلاصات البشرية في الفكر والتقدم الحضاري كانت نتاج حياة مؤلمة ومعاناة طويلة لشعوب عاشت خلال مئات الآلاف من السنين.
 
هكذا عاشت أوروبا، قرون طويلة غرقت فيها بالدم والمظالم واضطهاد الإنسان.
 
سأحاول أن أورد رواية مختصرة لهذه القصة التي حدثت في أوائل القرن الثامن عشر. فالتاجر البروتستانتي جان كالاس يعيش في مدينة يتخذ أهلها من الكاثوليكية مذهبا لهم، كان لديه ابنان وبنتان وزوجة وخادمة كاثوليكية، وكان لديه من العمر ستين عاما أو أكثر.
 
في إحدى الليالي قدم أحد أصدقاء ابنه من مدينة أخرى، وقد كان لجان كلاس ابن يميل كثيرا لقراءة الثقافة والأدب.
 
أراد هذا الفتى الالتحاق بأحد المراكز التعليمية، ولأنه كان بروتستانتيا فقد منعه ذلك من الالتحاق بهذا المركز، ويبدو أنه تكونت لدى الفتى نية مبطنة بالتحول الى الكاثوليكية، حتى يتسنى له الالتحاق بالمركز.
 
عند وصول صديق ولد جان كالاس، تناولت الأسرة جميعا العشاء، باستثناء هذا الولد الذي كان ميالا الى الثقافة والأدب، بعد تناول العشاء الحميمي، ولغرض من الأغراض تجول الضيف برفقة أحد الأولاد في زوايا المنزل، وعند الوصول إلى إحدى الغرف وجدوا ابن جان كالاس معلقا على حبل كان قد ربطه الى سقف الغرفة.
 
لم يتقبل المجتمع القصة بهذه الطريقة، بل نسجوا قصصا أخرى انتشرت سريعا بفعل التعصب المذهبي خلافا لما هي عليه الحقيقة، فقد قالوا إن جان كالاس استدعى صديق ولده لتقوم الأسرة بكاملها بعملية تواطؤ جماعية، وشنق ابنهم خوفا من تحوله للمذهب الكاثوليكي.
 
انبرى محامون للدفاع عن الأسرة، وانبرى محامون آخرون للدفاع عن مذهب الله كما يعتقدون، وتحت ضغط سكان المدينة ومطالباتهم تمت إدانة الأسرة بكاملها باعتبارها شريكة في الجريمة.
 
التعصب للمذاهب والأديان يشل حركة الذكاء الفردي، لأن الجماهير بكاملها ليست ذكية على الإطلاق، فالذكاء عامل فردي فقط، أما الجماهير فيمكنها أن تعمل على تغيير حركة التاريخ بناء على إشاعة لا يقبلها المنطق، بل قد تكون مثارا للسخرية متى ما عرضناه على أولى المسلمات المنطقية.
 
هناك في القصة تفاصيل كثيرة تؤكد أنها غير صحيحة، وأن الأسرة لم تقم بقتل ابنها، ولو أن الأسرة اشتركت بكاملها في قتل ابنهم حتى لا يتحول للكاثوليكية، فلماذا تقوم الخادمة الكاثوليكية أصلا بالاشتراك في هذه الجريمة؟ هذا فضلا عن دلائل كثيرة تؤكد أن خيال الجماهير كان أوسع من جلباب الحقيقة، وكان أكبر بكثير من شجاعة أسرة كاملة ستتواطأ على قتل ابن لها دون أن ترمش لها جفن.
 
تحت ضغط التعصب المجتمعي قُدم الأب للمحاكمة، وقد وضع على دولاب الموت، وتم قتله بطريقة بشعة وبتعذيب مستمر حتى فارقت كل خلية من خلاياه الحياة على حدة، وقد شعرت كل خلية من خلايا جسد ذلك التاجر بألم الموت، ولكن خلال تلك المدة لم يعترف الأب مطلقا بأي ذنب.
 
عند ذلك خاف القضاء من الاستمرار في قتل أسرة كاملة، وقد شعروا شعورا خفيا بخطئهم، وحتى يتجنبوا الاعتراف بالخطأ فقد حكموا على بقية أعضاء الأسرة بأحكام دون القتل، فقد نُفي الابن الآخر، وتم إدخال الفتاتين في دير كالثوليكي مدى الحياة، وتم مصادرة كل أملاك الأسرة وترك الأم مشردة وفقيرة دون مأوى.
 
بعد سنوات وعندما ساعد محامون المرأة على تقديم شكوى لملك فرنسا تم تبرئة الأسرة، وإعادة الأبناء، وقد اعتذر القضاء عن هذه الواقعة، ولكنه لم يستطع أن يعيد الأب إلى الحياة، أو ينجح في إزالة صورة الأب المعذب من خيال الزوجة والأبناء.
 
هذه القصة بهذه التفاصيل التراجيدية شكلت مدخلا لحديث واسع عن التسامح الديني، استعرض فلاسفة ومفكرو ذلك القرن تجارب الشعوب المجاورة بشأن التسامح الديني، كالإنجليز وغيرهم من الشعوب، بغية الوصول إلى مجتمعات تنعم بالسلام والأمن في ظل وجود تنوع إثني.
 
هذه القصة قادت مجتمعات وشعوبا إلى السلام، إلا من فترات قليلة صعد فيها متطرفون سدة الحكم، فهل تقود الحروب الصغيرة والكبيرة التي تدور في الوطن العربي حياتنا وحياة الأجيال القادمة إلى واقع بعيد عن الحرب.
 

التعليقات