لؤي لم يقتل نفسه بل قتلناه جميعًا
الأحد, 06 سبتمبر, 2020 - 07:31 مساءً

انتحر صديقي لؤي بالأمس، وصلني الخبر كالصاعقة، كنت متوقعًا أن يفعلها؛ لكن ليس مبكرًا كما حدث، أخر رسالة بيني وبينه قبل يومين، خضت معه نقاشًا مطولاً وفشلت في إقناعه بجدوى الحياة، كان بعيدًا عني ولم يكن بوسعي مساعدته في شيء، وهو في القرية. كان قريب مني روحيًّا، ويمكنني تغيير حياته عمليّا، وكنت عديم الحيلة تجاهه، لا أملك ما يمكنني انقاذ حياته به.
 
عرفت لؤي قبل 5 سنوات، هو أحد أبناء مديريتي كان عمره آنذاك 16 سنة، لم أصادف شابًّا بذكاء وعبقرية هذا الرجل وهو بهذا السن، ولم أخض نقاشًا معه إلا وخرجت مندهشًا من وعيه الحاد بالحياة وغزارة أفكاره.
 
الصديق الوحيد الذي كان يستفز عقلي وأكثّف قراءتي في الفلسفة كي أتمكن من مجاراته بالنقاش..كنت أقرأ في اتجاهات متعددة، وكان هو كل قراءته في الفلسفة، وفي كل محادثة معه، كان يضطرني لاستعادة بعض كتب الفلسفة كي أستوضع بعض الأفكار التي لم يسبق أن اطلعت عليها.
 
عاش لؤي حياة قاسية جدّا، ماتت أمه وهو صغير وهاجر أبوه للغربة ولم يعد منذ 18 عامًا، تربى في بيت أقاربه وكان منذ طفولته حزينًا ويشعر بالوحدة، كافح ليعيش وكانت الكتب ملاذه الوحيد، كان يهرب من واقعه البائس؛ بحثًا عن تفسير لحياته، غرق في الكتب منذ صغره وتكونت له تصورات مختلفة عن المجتمع، كان يناقشها مع الطلاب في المدرسة فيعنِّفه الجميع، لم يجد أحدًا يتفهمه، نهرَه المدرسين البلداء في مدرسته، طردوه، قالوا عنه ملحدًا، حرضوا زملاءه عليه، نبذوه بدعوى أنه سيفسدهم، كان الجميع يتحدث عنه كما لو أنه مجرمًا، وكنت أشعر بالصدمة من طريقة تعاملهم معه، ومنذ أول لحظة سمعتهم يتحدثون عنه، أدركت أنه شاب مختلف وأنه سيتعب إذا استمر في العيش داخل هذا المجتمع.
 
أكمل الثانوية ولم يجد أي طريق للحياة، فاعتكف في عزلته، وتضاعفت كوابيسه ثم انتهى به الحال للتخلي عن فكرة الحياة بكاملها.
 
حتى اللحظة الأخيرة كانت رغبته بالحياة موجودة، كنت ألتقط ذلك من تفاصيل صغيرة في حديثه، ورغم كل الاحباط الذي يعيشه، ظلت غريزة البقاء تعمل داخله، لكنه لم يجد أحدًا يحتويه، لا أصدقاء يشدونه للحياة، ولا أهل يمنحونه الدفء ولا جيران يحترمونه ولا عمل يشعره بالرضى عن ذاته، ولا مستقبل ينتظره ويحفزه للحياة..قلت له مرة: تزداد وحشة الحياة لدينا حين لا نجد شيء يربطنا بها، سيخف كثير من قلقك الوجودي لو تغيرت حياتك واقعيًّا، معنى الحياة ليس شئيًا نظريًّا يُعطى لك مسبقًا، بل شئيًا يبنى بالتدريج، الدراسة، العمل، الأصدقاء، الحب، وهكذا قال لي : أنا مستعد للعيش، وتقبل فكرة الحياة، مهما كانت عبثية؛ لكن حياتي واقفة، أريد أن أدرس، بم تنصحني يا محمد..؟
 
أتذكر أول مرة راسلني وهو متحرج وخائف، كان يعتقد أنني سأعارضه، تعاملت معه باحتفاء كبير، فشعر بابتهاج، أخبرته أنني أتابعه وأسمع عنه وأحيي وعيه الكبير، منحته رقم الواتس، فراسلني عليه: كنا نناقش كل شيء على فترات متقطعه..نصل لقناعات مشتركة في بعض الأمور، ثم نترك بقية الأفكار مفتوحة لنقاش قادم.
 
في نهاية أخر محادثة معه، بعثت له مقطع من كتاب فلسفي عن "معنى الحياة" ولماذا هي جديرة بأن تُعاش، فرد عليّ: أشعر أنك الصديق الوحيد بحياتي الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش، أريد أن ألتقيك يا صاحبي، أنا وحيد ولا أدري ماذا أفعل بحياتي..؟
 
لؤي لم يقتل نفسه، لقد قتلناه جميعًا، قتله المجتمع المريض، قتلته الحياة القاسية، غادر الحياة وهو أكثرنا استحقاقًا لها، المنتحرون هم أكثر الناس ادراكًا للحياة، أكثرهم رغبة بالعيش بشكل يليق بالإنسان، لديهم وعيًّا حارّا بفكرة الحياة، لا يتقبلون العيش بمستويات وضيعة، وحين لا يتمكنون من الحياة بشكل يمنح وجودهم معنى وقيمة يتخلون عنها.
 
الانتحار هو احتجاح الوعي ضد عبثية الحياة، أخر صرخة رفض للواقع المختل، قبلها يطلق المنتحر نداءات كثيرة، ولا يُقدم على الموت إلا وقد استنفد كل إمكانات الحياة وكل المحاولات للتشبث بها. كان يمكننا انقاذ لؤي لكننا لم نفعل ، تعاملنا معه ببلادة وفتور، ولم ندرك فداحة الحياة التي كان يعيشها إلا بعد أن تخلى عنها، لا يتخلى الإنسان عن حياته إلا وقد صارت عديمة القيمة، حين يتساوى عنده العيش والموت، يختار الموت، كحل أخير وهادئ يخلصه من قلق الحياة الفارغة.
 
أنا مؤمن أن لؤي أطهر من كل الذين ما يزالون على قيد الحياة، أقرب إلى الله من كل العبّاد، ظل رافضًا لواقعه المختل منذ بزوغ وعيه، رفض الإيمان بأي شيء حتى يقتنع بالفكرة، كان شابًّا نقيًّا، صريحًا، لا يجيد التعايش مع الزيف ولا يتقن مجاملة المجتمع، واجه الحياة وحيدًا ثم واجه الموت أشد وحده.
 
أشعر بالندم يا لؤي، بموتك مات جزء مني، إننا حين نفرط بحماية حياة واحد منا، يتآكل وجودنا نحن، ونكتشف كم أن الحياة تافهة وبلا أي قيمة.
 
مع الله يا لؤي، مع الله يا صاحبي، لقد رحلت وتركتني مكسور بعدك، أشعر بفجوة داخلي لن يرممها شيء، سامحني لإني لم أتمكن من انقاذك، كل ما كان بمقدوري فعله هو أن أحتضنك وأبكي معك، أبكي وجودنا المهدور كما دمك المسفوح أسفل المشنقة.
 

التعليقات