مفارقات ومزاحمات
الجمعة, 23 سبتمبر, 2016 - 11:15 صباحاً

خلال الأسابيع الماضية انعقدت أربع قمم توحي بمفارقات مذهلة قد تشير إلى المدى الذي ذهب إليه العالم خلال العقود الأربعة الماضية. إلى أي وجهة راح وإلى أي مسار يتوجه.
القمة الأولى عقدتها الدول العشرون المتصدرة اقتصادات العالم في بكين. وكانت الصين حتى مطلع سبعينات القرن الماضي تصدر الكتاب الأنيق «مقتطفات من أقوال ماو تسي تونغ».
لا يفهم من هذا أن الصينيين كانوا عاطلين عن العمل متفرغين للإيديولوجيا، ذلك أن المسيرة الكبرى بقيادة ماو حققت طفرة هائلة في النمو الاقتصادي ظهرت في تشييد البنية التحتية، بشبكات واسعة من الطرق والسكك الحديدية والموانئ والمطارات والكهرباء والري. يتعمد أنصار التوجه الرأسمالي إرجاع الفضل في النهضة الاقتصادية بالصين إلى تنغ هسياو بنغ الذي قاد الصين من موقع الرجل الثاني بعد رحيل ماو ، ويتناسون أن الأول أرسى القواعد وهيأ الأرضية الصلبة للبناء.
 
ليست المفارقة هنا وإنما في أن الصين الشعبية ظلت ممنوعة من عضويتها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن بسبب الفيتو الأمريكي واحتلت المقعد الصين الوطنية، الدولة التي أنشأها تشنج كاي شيك في جزيرة فرموزا التي فرّ إليها عقب هزيمته أمام الزحف الأحمر في 1949. وكذلك ظل الحال إلى أن اصطدم الرئيس الأمريكي نيكسون بعناد الحقائق فذهب إلى بكين قبل سقوطه المدوي في 1972، واحتلت الصين الشعبية مقعدها في مجلس الأمن وخرجت فرموزا لتبقى تايوان الدولة المحتمية بالملاذ الأمريكي، ولكن حتى حين. ذلك أن بكين تسعى إلى استعادة الجزيرة إلى البر الصيني بشبكة المصالح الاقتصادية، وليس عبر الصدام في بحر الصين.
 
تلك الصين التي مُنعت قرابة ربع قرن من دخول مبنى المنظمة الدولية في نيويورك غزت الأسواق الأمريكية وأسواق العالم ، وباتت المنافس الأول والدائن الأول للولايات المتحدة والراجح في الميزان التجاري.
الثانية قمة أوروبية عقدت في عاصمة سلوفاكيا، وكانت هذه تشكل مع التشيك جمهورية واحدة (تشيكوسلوفاكيا) وهي إحدى الدول الأوروبية الست التي انتهجت المذهب الاشتراكي بعد الحرب الثانية ودخلت في حلف مع الاتحاد السوفييتي وتحت قيادته. لكن هذه خلافاً لجاراتها كانت ذات تقاليد ليبرالية وبرجوازية، لهذا لم تتحمل الانعطاف العنيف إلى الاشتراكية ، واستوحت من إرثها نموذجاً وطنياً صرفاً. جاء ذلك مع صعود قيادة متفتحة بزعامة ألكسندر دوبتشك ، خطت مسافات في الإصلاح عرفت ب «ربيع براغ» وشملت إطلاق المبادرات والتخلي عن هيمنة الحزب على الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية لإضفاء وجه إنساني على الاشتراكية.
 استدعى الربيع غزواً سوفييتياً أقصى قادة الحزب ووضعهم في وظائف أهمها إدارة مزرعة حكومية تولاها السكرتير الأول دوبتشيك. والآن فإن أحد التعبيرات عن التبدل في العالم أن دول الاتحاد الأوروبي تجتمع في الدولة التي لم يسمح لها الاتحاد السوفييتي أن تشق طريقاً خاصاً للاشتراكية فضلاً عن أن تخرج عن طاعته. غير ذلك فإن حلف الناتو اجتاز الأسوار ودك المعاقل وأقام القواعد في دول حلف وارسو وفي جمهوريات سوفييتية سابقة.
 
لكن هذا لم يمنع روسيا من استعادة شبه جزيرة القرم من أوكرانيا من غير أن تتعرض لحرب تعيد ذكرى هزيمة منتصف القرن التاسع عشر على أيدي العثمانيين مسنودين بالإمبراطوريات الأوروبية، (بريطانيا وفرنسا والنمسا).
القمة الثالثة عقدتها دول عدم الانحياز في فنزويلا ، بحضور رؤساء عشر دول فقط من 130 عضواً في الحركة التي تأسست بزعامة الرئيس المصري جمال عبد الناصر ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو والزعيم اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو. كانت البداية في باندونغ 1955 ، حيث طرحت فكرة الحياد الإيجابي ، بحضور رئيس وزراء الصين شو آن لاي مع مجموعة من قادة الدول في آسيا وإفريقيا إلى أن انعقد المؤتمر الأول للحركة في باندونغ بيوغسلافيا العام 1961. وقد لعب قادة مجموعة عدم الانحياز دوراً مؤثراً في السياسة الدولية وساهموا في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين في أحد التجليات ،

خصوصاً عندما نجحوا في منع تطور الصدام بين موسكو وواشنطن إلى مواجهة بالسلاح أثناء أزمة نصب الصواريخ السوفييتية في كوبا. وحتى سبعينات القرن الماضي بقي أثر معنوي لحركة عدم الانحياز بالبريق الذي أشع من مؤتمرها الخامس في الجزائر 1973. ومن بعد أصبحت بلا معنى أو دور بفعل جريان مياه كثيرة في نهر العلاقات الدولية ، ذهب خلالها القادة الكبار وتوسعت عضويتها لتشمل دولاً تميل بالولاء إلى أحد المعسكرين. وفي وقت ما كانت مواقفها المناوئة للسياسة الاستعمارية تضعها محل احترام وترحيب، لكن تبدلات الأحوال ألغى المسافات مع الأمريكيين وحلفائهم. ثم إن سقوط المعسكر الاشتراكي وانهيار الاتحاد السوفييتي ، قضى على الفكرة من أساسها وبات الاجتماع بروتوكولياً لا يرمي إلى أي هدف. قد يجوز تخطي عدم الانحياز وتبني صيغة تحيي فكرة السبعة والسبعين المطالبة بنظام اقتصادي عالمي جديد يحقق التوازن بين الشمال والجنوب.
 
القمة الرابعة عالمية استضافتها نيويورك في المبنى الزجاجي للأمم المتحدة، وأهم ما يثير فيها أنها بحثت موضوع اللاجئين والمهجّرين، وفيه إشارة إلى أن المنظمة الدولية باتت مسلّمة بالعجز عن القيام بوظيفتها الأساسية في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين ، وانحرفت بواجباتها إلى موضوع أخلاقي يتمثل في البحث عن تمويل لإيواء وإطعام الهاربين من جحيم الحروب.
وما دمنا في نيويورك فقد نرى أثر المزاحمة في المناطق الملتهبة بخطاب أوباما الذي بدا وكأنه المسؤول عن مصائر البشر ومستقبل الكون. لكننا قد نرى وجهاً مكملاً في عمليات «داعش» التي ترفع من أوراق المرشح المعادي للعرب والمسلمين ، دونالد ترامب.
 
 * الخليج الإماراتية
 

التعليقات