التجربة المغربية.. مخرج دستوري أم صناعة حزب على المقاس؟
- محمد طيفوري - الجزيرة نت الثلاثاء, 21 مارس, 2017 - 10:25 صباحاً
التجربة المغربية.. مخرج دستوري أم صناعة حزب على المقاس؟

وضع بيان الديوان الملكي (يوم 15 مارس/آذار 2017) -القاضي بإعفاء الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران من تشكيل الحكومة- الحدَّ لمسارِ أطولِ مفاوضاتٍ في تاريخ البلاد  قصدَ تشكيل الحكومة.


هذا الاستثناء حضر في بيان إعفاء بنكيران الذي خالف كل التأويلات التي قيلت في معرض البحث عن مخرج لهذه الأزمة الخانقة، فملك البلاد لم يجنح إلى مد يد العون للرجل قصد تجاوز الانسداد السياسي -كما يتوقع مؤيدو بنكيران- وإنما حمّله بشكل ضمني مسؤولية مآلات الأوضاع.

كما أنه لم يَنْسَق -في المقابل- وراء تفسيرات غير ديمقراطية لنص دستور 2011، كثر الحديث عنها في الأيام الأخيرة من عمر الأزمة السياسية.

ما بين منطوق بيان إعفاء بنكيران الذي قام به القصر المَلكي وهو مقيَّد بالنص الدستوري الجديد، وقرار تعيين سعد الدين العثماني الذي جاء موافقا للفصل (199) من الدستور القديم؛ تتعدد القراءات التي يحملها التدخل  الملكي لحلحلة الأزمة السياسية.  

الوفاء للدستور في الإعفاء

أكد بيان الديوان الملكي أن الملك تدخل في حدود العلاقة المفترضة بين رئيس الدولة ورئيس حكومة معيَّن، بمعنى أنه تدخل بمرجعية رئيس الدولة الذي يتحمل مسؤولية احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات، وحماية المصالح العليا للوطن والمواطنين.


لقد مارس الملك -بناءً على مضمون الفصل (42)- صلاحيته الدستورية، حين قرر إدخال صفحة بنكيران إلى سجل التاريخ، وعزل السياسي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

واحترم -من الناحية الشكلية- مقتضيات النص الدستوري باختياره تعيين سعد الدين العثماني (الرجل الثاني في الحزب) بديلا عن هذا "الشعبوي الصدامي المزعج للسلطة". وبذلك يبقى وفيا لبنود الفصل (47) من الدستور، أي اختيار رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات.

علما بأن النص الدستوري يعطيه خيارا آخر يتمثل في حل البرلمان وإعلان تنظيم انتخابات مبكرة، وخيارات غير دستورية مثل تأويل بعض الفصول بما يتوافق مع إرادة المؤسسة الملكية، في ظل الفراغات الكثيرة التي كشفتها الأزمة الحكومية في النص الدستوري (مثلا مدة تشكيل الحكومة).

أو التأسيس لعرف دستوري جديد على غرار ما حدث مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عند تعيين إدريس جطو رئيسا للوزراء عام 2002، في خروجٍ عن المنهجية الديمقراطية التي كانت عرفا آنذاك.
يفنّد تعيينُ المؤسسة الملكية شخصيةً أخرى داخل حزب العدالة والتنمية الأطروحةَ التي راجت قبيل الانتخابات البرلمانية؛ والقائلة إن الملك لم يعد يرغب في أن يحكم إلى جانب الإسلاميين حتى وإن منحتهم صناديق الاقتراع الصدارة.

إذ بلغت العلاقة بين الطرفين -من وجهة نظر بعض المحللين- مرحلة اللاعودة أو "الطلاق البائن". غير أن هذا القرار يؤكد نقيض ما يذهب إليه هذا الطرح، فالقصر لديه مشكلة مع تيار أو أشخاص بذاتهم، نظرا لمواقفهم وصراعهم مع أشخاص أو أحزاب مقرّبة من القصر، وليس مع التنظيم الإسلامي قاطبة.

الإخلال بالمشروعية في التكليف 

كان بنكيران -في تعامله مع الأزمة الحكومية- يرغب في "تصديرها" للمؤسسة الملكية مع احتفاظه بالمفاتيح بين يديه، ويجد ما ذهب إليه تبريره في كون الملك رئيسا للدولة وحَكَما بين المؤسسات أولاً، وثانيا في العلاقة "الملتبسة" للأطراف الأساسية في الأزمة مع القصر أو على الأقل جناح منه، هذا إن لم تكن تنفّذ أجندته بتوالي اشتراطاتها.
لكن القصر فطن إلى الأمر فعمد إلى إعادة الكرة إلى الحزب ككل -وليس إلى الأمين العام وحده- حين تحدث البيان الملكي عن شخصية بديلة من صفوفه دون تسميتها.


لكن سرعان ما استدرك الأمر خشية الدخول في مواجهة غير مباشرة مع رفقاء بنكيران، وكان الاستدراك بتعيين ثاني شخصية في الحزب بمنصب رئيس الحكومة، وتكليفه بمهمة البحث عن ائتلاف حكومي فشل -أو ربما أُفشل- الأمين العام في تشكيله.

وبذلك يقطع القصر الطريق على أي مفاجأة قد يحملها اجتماع المجلس الوطني، وبالأخص بعدما أكد بيان الأمانة العامة رفضه تحميل بنكيران أي مسؤولية عن تأخر تشكيل الحكومة، مشيرا إلى أن المسؤولية عائدة إلى "الاشتراطات المتلاحقة" خلال المراحل المختلفة من المشاورات.

ووضع بيان الأمانة العامة حدا للأصوات الحالمة بعودة الحزب إلى صفوف المعارضة، ممن يرون في ذلك انسجاما من الحزب مع مواقفه وتلاحما مع قيادته، إذ بذلك سيبرهن للشعب على أنه حزب له استقلالية كاملة في القرار الداخلي، وغير مستعد لتلقي الإملاءات من أي جهة كانت.

كان بيان الإعفاء خطوة من القصر تحمل في طياتها قفزة للأمام في علاقة المؤسسة الملكية بالفاعل الحزبي، إذ كان مفترضا أن تنتظر المؤسسة الملكية أياما لترى ما سيصدر عن المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية (برلمان الحزب) من قرارات، ما دامت قد انتظرت أكثر من خمسة أشهر بلا جدوى.

لكن شيئا من ذلك لم يقع؛ إذ عمد القصر إلى تعيين سعد الدين العثماني ففرض بقراره هذا على برلمان الحزب مسايرة مجريات الواقع، إذ لم يترك خيارات كثيرة أمامه غير تنفيذ الخطة المرسومة.
وهكذا وجد قادة العدالة والتنمية أنفسهم مجبَرين على التفاعل الإيجابي مع الشخصية الجديدة التي اختارها القصر، دون انتظار ما سيرشح عن برلمان حزبهم من قرارات ومواقف، وربما من أسماء يقترحها الحزب لقيادة الحكومة بديلا عن بنكيران.

ما وراء الإعفاء والتعيين

التعيين والإعفاء ضروريات متأصلة في المشهد السياسي بالمغرب بالنظر لطبيعة النظام القائم؛ والذي تطبعه  سمتان: الهجنة والالتباس. ويبقى المتغير الأساسي هو كيفية ممارسة الملكية لهذه الصلاحيات الدستورية.

أي هل تتخذ منحى ديمقراطيا مقدمة بذلك القدوة لباقي الفاعلين على وجوب الانحياز إلى التأويل الديمقراطي للدستور، أم إن هاجس المصلحة يبقى الضابط المقيد لها عند التعاطي مع المتن الدستوري؟
سؤال تجيب عنه تطورات التعاطي مع الأزمة الحكومية بشكل غير مباشر، من خلال الرسائل العديدة التي يمكن أن نستشفها مما جري ويجري حاليا على الساحة السياسية المغربية:

أولا: عزل بنكيران رسالة من الدولة إلى حزب العدالة والتنمية ليغيّر منهجيته في التعامل مع القصر، وإلى رئيس الحكومة الجديد سعد الدين العثماني كي يكون أكثرا مرونة وتجاوبا مع التوجهات العليا، ويتجنب "سياسة المعارضة" التي كان يمارسها سلفه في نهاية الأسبوع طوال ولايته الحكومية.

ثانيا: الدولة عازمة على مواصلة عملية تدجين الإسلاميين على غرار باقي الأحزاب في المشهد السياسي (وفق قاعدة العصا والجزرة)، وذلك بإذابتهم في بوتقة النظام السياسي المعقد بشكل بطيء، معتمدة أساسا على عامل الزمن.


وهو ما يعني تكرار الأسلوب الذي اتبعته مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ذي الرصيد التاريخي العريق، والذي أنهِي عمليا في وقت قياسي (1997 - 2017).

ثالثا: الدولة تريد نسخة من حزب العدالة والتنمية تختلف عن تلك التي يريدها جزء من الشعب، فهي بحاجة إلى تسويق نجاح النموذج المغربي في العمق الأفريقي وعلى الصعيد الدولي أيضا.

لكنها -في المقابل- غير قادرة على تحمل حزب سياسي يؤسس لثقافة سياسية جديدة لم تعهدها، قوامها: التصويت السياسي، وشرعية الصندوق، والإرادة الشعبية... إلخ، مما سيكون له أثره السياسي في المجتمع بعد حين.

رابعا: الدولة لا ترغب في الصدام مع العدالة والتنمية لأنها بحاجة إليه في الظروف الراهنة، إذ لو كان في نيتها تفتيت الحزب لوقع اختيارها على وزير التجهيز والنقل عبد العزيز الرباح بدل رجل التوافقات سعد الدين العثماني. مما يفيد ضمنيا بأن الهدف من هذا المخرج هو صناعة حزب على المقاس.

خامسا: الدولة لا ترغب في كسر قوس "الربيع المغربي" بقدر ما تعتزم إغلاقه بهدوء تدريجيا، وما الانسداد السياسي الذي عشناه سوى محطة قد تتلوها محطات أخرى؛ وإن كان الأمر مستبعدا في ظل قيادة رجل مهادن وتوافقي كالعثماني للحكومة في السنوات الخمس المقبلة، إذا وُفّق في تشكيلها.

سادسا: تحرص الدولة في هذا الصراع على تأطير نفسها بالمتن الدستوري، الذي تعسفت في استعماله غير ما مرة في السابق.

في حين أن الأمر عائد إلى رغبتها في توظيفه لمنع عودة العدالة والتنمية إلى المعارضة، لأن ذلك يعني تلقائيا رفع أسهم الزعيم عبد الإله بنكيران في المشهد السياسي، وإتاحة الفرصة الكاملة له كي يمارس دورا يتقنه أصلا.

بقي أن نشير أخيرا إلى أن من استعجلوا نهاية "المزعج" بنكيران -الذي دخل في صراع مع أكثر من جهة في الدولة حتى بات غير مرغوب فيه منذ الأشهر الأخيرة من ولايته الأولى- سيعملون على تسهيل مأمورية العثماني قصد إنجاح تشكيل الائتلاف الحكومي.

لكنهم يتناسون أن المعركة الأهم تكمن في تنزيل باقي الإصلاحات السياسية الحارقة أحيانا، والتي تتطلب مواجهة الشعب بالصراحة واللغة البسيطة والساخرة أحيانا. وهذه مهمة لا يتقنها في حزب العدالة والتنمية أحد غير بنكيران الذي رفض على الدوام صناعة حزب على مقاس السلطة.
 
 


التعليقات