اعتدنا أن نسمع قصص النجاح التي تبدأ بخطوات محسوبة وتخطيط دقيق لكن هناك قصصا أخرى يولدها الظرف القاسي وتفرضها الحاجة الملحة والصعبة. قصة جابر محسن غالب واحدة من تلك الحكايات التي تكشف كيف يمكن للإنسان أن يعيد رسم مسار حياته عندما تضيق به سبل الحياة.
جابر، الذي نشأ في أسرة معظم أبنائها ينتسبون إلى السلك العسكري والأمني، لم يكن يتخيل أن مستقبله سيكون في عالم التجارة. فكل أفراد أسرته تقريبًا ساروا على نهج الاعتماد على الوظيفة، وكان والده ضابطا محنكا شغل مناصب أمنية في عدد من المحافظات حتى قُوعد.
لكن الحرب قلبت المعادلة رأسا على عقب، وتوقف راتب والده وإخوته، فوجد جابر نفسه أمام خيار لم يكن يوما جزءًا من خططه: البحث عن عمل خارج دائرة الوظائف التي اعتاد أن يراها الضامن الوحيد للاستقرار.
هكذا بدأ رحلته إلى مدينة الشرق - ذمار ، حيث عمل في متجر يملكه نسيبه عادل السلامي، وهو رجل أعمال لم يكن مجرد تاجر وحسب، بل كان معروفا بمساعدته لأقاربه ومن حوله. كان العمل في البداية مجرد وسيلة لسد الحاجة، لكن شيئا فشيئا بدأ جابر يرى التجارة بعين مختلفة، وكأنه يكتشف عالمًا جديدا لم يكن يعيره اهتمامًا من قبل.
لكن النجاح في التجارة ليس مجرد صدفة أو ضربة حظ، بل هو حصيلة لصبر وتخطيط واستغلال الفرص. رغم بساطة المشروع الذي بدأ به، فإن جابر لم يرضَ بأن يبقى مجرد عامل صغير، فغامر بخطوته الأولى نحو الاستقلال، رغم المخاطر التي كانت تحيط بهذه المغامرة.
ربما لو لم ينجح لكان قد عاد خائبا إلى قريته أو إلى العمل كعامل، لكنه أصر على تجاوز التحديات، واستطاع شيئا فشيئا أن يجعل اسمه معروفًا في السوق. لم يكتفِ بمحل واحد، بل توسعت أعماله ليصبح تاجرًا يحسب له حساب، بعد أن كان لا يملك إلا خبرة بسيطة وشغفًا في التعلم.
لكن القصة لا تنتهي عند نجاحه الشخصي، بل إن الأثر الذي تركه كان أعمق من ذلك. فمع انتشار خبر نجاحه، بدأ شباب من قريته والقرى المجاورة ينظرون إلى التجارة كخيار حقيقي، بعدما كانوا يرون الوظيفة الحكومية الطريق الوحيد للحياة. البعض بدأ مشاريع صغيرة داخل القرية، والبعض الآخر مثل جابر، قرر خوض التجربة في المدينة ومدن أخرى، ليخلق بذلك موجة جديدة من الطموح الذي لم يكن مألوفا في بيئته.
ورغم كل ما وصل إليه، لم ينسَ جابر جذوره، ولم يغيره المال كما يحدث للكثيرين. كان بارا بوالده، محبًا لأسرته، ملتزمًا بمسؤوليته تجاههم. والده، الذي خدم الدولة لسنوات طويلة، ينظر إليه اليوم بفخر ليس فقط لأنه نجح، بل لأنه لم يبتعد عن القيم التي نشأ عليها، ولم ينسَ أهله وناسه أو يتنكر للماضي.
إن قصة جابر ليست مجرد حكاية نجاح فردي، بل هي نموذج لما يمكن أن يحدث عندما يقرر الإنسان أن يصنع فرصته بنفسه، بدلًا من انتظار الظروف المثالية التي قد لا تأتي أبدا. إنها دعوة للتفكير خارج الصندوق، ولإعادة النظر في القناعات التي نرثها دون أن نختبرها.
فليس كل من وُلد في بيئة معينة يجب أن يسير في الطريق ذاته، وليس هناك مسار واحد للحياة، بل خيارات متعددة، وما يحدد النجاح ليس أين تبدأ، بل كيف تصنع طريقك الخاص.
إن تجربة جابر تثبت أن العمل الجاد والإصرار يمكن أن يغيّرا المصير، وأن النجاح ليس حكرًا على أصحاب الامتيازات، بل هو متاح لمن يؤمن بأن الفرص تُخلق ولا تُنتظر.