مسلسل "1899".. هل يعقل أننا نعيش الآن داخل محاكاة؟
- الجزيرة نت الاربعاء, 30 نوفمبر, 2022 - 03:07 صباحاً
مسلسل

بدا الأمر وكأن هناك شيئا غريبا يحدث في مبنى قسم الأعصاب بجامعة فورمان في جرينفيل بولاية ساوث كارولينا الأميركية، فهناك مجموعة من 48 شخصا تدخل يوميا في المساء وتخرج فقط في الصباح، وإذا قررت أن تذهب إلى معمل الدكتورة إيرين وامسلي فإنك ستجدهم نائمين ومحاطين بالأجهزة التي تقيس التغيُّرات الفيزيائية والحيوية والعصبية في كلٍّ منهم، بين الأَسِرَّة تتجول وامسلي ورفاقها من الباحثين لتوقظ كل واحد منهم من حين إلى آخر.

 

ما يحدث لم يكن أحد مشاهد فيلم "إنسيبشن" (Inception)، بل كان تجربة نُشرت نتائجها قبل عام في دورية "سليب"1، حيث قامت الباحثة بإيقاظ المشاركين 13 مرة أثناء نومهم وسؤالهم عن أحلامهم، وأظهرت النتائج أن 50% تقريبا من الأحلام تعود إلى الذاكرة، وكانت مرتبطة خاصة بتجارب سابقة متعددة، ووجدت الدراسة أيضا أن 25.7% من الأحلام كانت مرتبطة بأحداث وشيكة محددة، وأن 37.4% من الأحلام مع حدث مستقبلي كانت مرتبطة بواحدة أو أكثر من ذكريات التجارب السابقة. وأظهرت التجارب كذلك أن الأحلام الموجهة نحو المستقبل أكثر شيوعا نسبيا في وقت لاحق من الليل.

 

العلاقة بين الأحلام والذاكرة قوية، حاليا يرى فريق من العلماء أن أكثر أحلامنا غرابة ليست إلا تلاقيا غير موضوعي لذكريات "خافتة" هي ما يتسبب في أن تجد نفسك فجأة تقف إلى جوار نابليون بونابارت لتلعبا معا "فيفا" بينما تقفان أعلى برج إيفل، وأم كلثوم بشحمها ولحمها تقف إلى جواركما لتغني "أغدا ألقاك"! لكن ماذا لو كان الأمر أعمق من ذلك؟ ماذا لو كانت تلك الذكريات أصلا كاذبة؟

 

في المسلسل الألماني الجديد "1899"، من إنتاج "نتفليكس"، نلتقي بمجموعة من الأفراد في سفينة تُدعى "كيربيروس" متوجهين من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأميركية، لكن بعض الملابسات تُحضرهم إلى جوار سفينة مفقودة قبل أربعة أشهر، ومن هنا تبدأ الأحداث في التداعي في عالم يبدو أنه أقرب ما يكون للحلم، المسلسل يجري على خط سابقه (Dark)، من إنتاج فريق العمل نفسه، الذي استغل معضلات السفر في الزمن ليصنع حبكة ممتازة، لكن كعادة "نتفليكس"، يستغل المسلسل الجديد حبكته لإقحام قضايا سياسية واجتماعية ليست ذات علاقة، وعلى رأسها بالقطع مسألة المثلية الجنسية.

 

ذكريات مزروعة

 

هذه المرة يتخذ المسلسل طريقا آخر يتعلق بالفيزياء وعلم الأعصاب على حدٍّ سواء، يمكن أن يبدأ من الكيفية التي تُشكِّل بها ذكرياتُنا أحلامَنا. كما أوضحنا قبل قليل، فإن لذكرياتنا دورا جوهريا في بناء عالم الحلم، ولكن ماذا لو كانت تلك الذكريات غير حقيقية، ماذا لو كانت كاذبة من الأساس وقد زُرعت في أدمغتنا؟

 

كانت إليزابث لوفتس(2) ورفيقها جون بالمر، متخصصا علم النفس الإدراكي من جامعة واشنطن، أول مَن أثار الانتباه لتلك النقطة في السبعينيات من القرن الفائت، حينما قالا إن ذاكرتنا مرنة، يمكن تعديلها بدرجة من السهولة. في(3) "تجربة الضياع في المركز التجاري" يقوم الباحثون عبر طرق ملتوية تتضمن تزوير الصور بالفوتوشوب بعرض أربع ذكريات من الطفولة على المتطوعين، كلها ذكريات حقيقية عدا واحدة تتضمن فقدانه في المركز التجاري وإعادته إلى عائلته من قِبَل أحد الأشخاص، نجحت التجربة بنسبة 25-38%، حيث قال ربع المشاركين في استقصاء تالٍ إنهم بالفعل فُقدوا في المركز التجاري، ثم بدؤوا باستدعاء ذكريات عن الحادثة ألَّفتها أدمغتهم بالكامل!

 

ويبدو أن الأمر لن يحتاج إلى حكايات مفبركة لتعديل الذاكرة، فقد تمكَّن علماء الأعصاب(4) في فرنسا قبل سبعة أعوام من زرع ذكريات كاذبة في أدمغة الفئران النائمة باستخدام الأقطاب الكهربائية، قام هذا الفريق بإنشاء ذكريات أثناء غفوة الحيوانات يعتقدون خلالها أنهم حصلوا على مكافأة في مكان معين، ثم استيقظوا ليبحثوا عن المكافأة في هذا المكان.

 

أصبح التلاعب بالذكريات عن طريق العبث بخلايا الدماغ أمرا روتينيا في مختبرات علم الأعصاب(5). في العام السابق لهذه التجربة، استخدم فريق من الباحثين تقنية تُسمى علم البصريات الوراثي (optogenetics) لتعليم الخلايا التي تشفر الذكريات المخيفة في دماغ الفأر، ثم تشغيل الذكريات وإيقافها، ثم رصد أثر ذلك على الفأر، واستخدمها فريق آخر للتعرف على الخلايا التي تشفر الذكريات العاطفية الإيجابية والسلبية، بحيث يمكن أن يحول الذكريات الإيجابية إلى ذكريات سلبية، والعكس صحيح!

 

حلم أم حقيقة؟

 

لكن ذلك بدوره يُعيدنا إلى عالم الأحلام، ولنبدأ من ملاحظة مهمة وهي أننا عادة في أثناء الحلم لا ندرك أننا نحلم، دائما ما نقوم بتوليف الأحداث داخل الحلم بحيث تنعكس ذاكرتنا وطريقتنا في التفكير على هذا العالم الخيالي، فيبدو وكأنه عالم واقعي بالكامل على غرابته الشديدة وتناقضاته الظاهرة، وهوله الشديد في بعض الأحيان، بل لا يخطر ببالنا أصلا أن نفكر فيما إذا كنا داخل حلم الآن، هل حدث من قبل وتعرضت لموقف شديد الصعوبة لا قدر الله؟ ربما في هذا الموقف من هول الصدمة تساءلت إن كنت تحلم ويجب أن تستيقظ الآن.

 

في عام 1641، تساءل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1641) عما إذا كان العالم الذي نعيشه أثناء اليقظة قد يكون بحد ذاته حلما، فإذا كان عالم الأحلام حقيقيا تماما مثل عالم اليقظة (على الأقل أثناء وجودنا فيه)، فكيف لنا أن نعرف على وجه اليقين أننا لا نعيش حاليا في حلم قد نستيقظ منه يوما ما؟

 

سيرد فريق من الفلاسفة أنه على الرغم من أن وجودنا داخل حلم يبدو واقعيا، فإن هناك اختلافات أخرى بين عالم الأحلام وعالم اليقظة. على سبيل المثال، يتمتع عالم اليقظة بتماسك يفتقر إليه عالم الأحلام غالبا. على سبيل المثال، في العديد من الروايات والأفلام والمسلسلات (ومنها هذا المسلسل)، تدرك الشخصيات أنها تحلم بسؤال أنفسهم كيف جاؤوا في موقف معين؟ ثم يدركون أنهم لا يستطيعون التذكر، لأن الحلم أسقطهم هناك. (6)

 

لكن هذا الفارق يتلاشى تماما في بعض الأحيان، في تجارب الاقتراب من الموت مثلا أو تعرض أحدهم لحالة من التخدير أو حتى في أثناء اختبار البعض لمرض عقلي مثل الفصام أو بعض اضطرابات الشخصية أو غيرها، هنا يكون الفارق بين الواقع والحلم دقيقا جدا بحيث يفتقد الشخص للقدرة على التمييز بينهما، أحد الأعراض الشهيرة للذهان على سبيل المثال هي فقدان القدرة على التمييز بين الواقع والحلم.

 

في تلك النقطة تحديدا يظهر أحد جوانب مسلسل "1899"، لو افترضنا أنه يمكن تعميم تلك الحالات الخاصة السابقة لتعديل ذكريات مجموعة من الأشخاص ثم وضع كلٍّ منهم في حالة حلم مصمم لاختبار سلوكهم في سياق مجموعة محددة من الأحداث أو قُل الاختبارات، فما الذي يمكن أن يحدث؟ بالطبع يتجاوز المسلسل تلك النقطة إلى مستوى خيالي تماما، لكن يبقى هناك بعض من الواقعية في الفكرة الجوهرية.

 

لكن المسلسل لا يقف عند هذا الحد، بل يتساءل بشكل أعمق عن فرضية اقترحها أستاذ الفلسفة من جامعة أوكسفورد نيك بوستروم قبل نحو عشرين سنة ترى(7) أن هناك احتمالا أكبر مما نعتقد أننا لا نعيش في عالم فعلي، بل نعيش داخل محاكاة!

 

حجة المحاكاة

 

تجري حجة المحاكاة كالتالي: هناك واحد من ثلاثة احتمالات، فإما أن الحضارات مثل حضارتنا البشرية ستضطرب يوما ما أثناء تقدمها التكنولوجي، ربما بسبب أننا لم نتحمل كل هذا التقدم وقررنا أن نتحارب، أو أنها ستتجاوز تلك المشكلات المعقدة وتصل خلال مئات الآلاف أو ملايين السنين إلى نقطة تمتلك فيها قدرات حاسوبية هائلة تُمكِّنها من صنع محاكاة لأسلافها، أي نسخ بدائية منها (كحضارتنا الآن)، لكنها لا تُقْدِم على تلك الخطوة لسبب ما، ربما لأنها غير مهتمة أو لأن الأمر مكلف دون مقابل سخي، والاحتمال الثالث هو أن تقرر واحدة من تلك الحضارات المتقدمة جدا أن تصنع محاكاة بالفعل.

 

لكن هناك ملاحظة مهمة في هذا السياق، إذا رغبت حضارة ما في بناء محاكاة، فمن المحتمل أنها ستمتلك القدرة التقنية لصناعة آلاف أو ملايين بل ومليارات الصور من المحاكاة، بالضبط كما نتمكن الآن من تكرار الخوارزميات والبرامج الحاسوبية، الآن إذا افترضنا أن نسبة ضعيفة جدا من الحضارات تجاوزت الاحتمال الأول، ومن تلك النسبة فإن عددا قليلا جدا من الحضارات قد مر إلى الاحتمال الثالث، وفيه يمكن صناعة عدد هائل من عوالم المحاكاة، فإن الاحتمال الإحصائي الأكبر بفارق كبير إذن هو أننا -في صورتنا الحالية- نعيش داخل محاكاة.

 

هل يمكن أن يصل تقدمنا العلمي يوما ما إلى تلك المرحلة؟ هذا سؤال مهم، والإجابة هي "نعم" لا شك، لو تأملت تقدمنا التقني خلال 300 ألف سنة لاتضح أن حضارتنا البشرية تتقدم بصورة لا خطية، أي إن كل مرحلة تضاعف ما حققته من سابقتها من تقدُّم، في الحوسبة فقط فإن هذا التقدم يندرج تحت ما يسمى بقانون مور، الذي ينص على أن عدد الترانزستورات على شريحة المعالج في الحاسوب يتضاعف تقريبا كل عامين في حين يبقى سعر الشريحة على حاله. على سبيل المثال، فإن قدرات "الآيباد" الآن هي نفسها قدرات حاسوب صُنع في الخمسينيات بتكلفة نحو 100 مليون دولار!

 

في الفيزياء، هناك فرضية ترجح بنية شبيهة، ترجع القصة إلى نهاية عام 1970، عندما قدَّم فيزيائي شاب يُدعى جاكوب بيكنشتاين(8) مقترحا يفترض أن كل شيء يُلقى به في الثقب الأسود مثل ذرة أو جزيء أو سيّارة أو طاولة أو أي شيء نعرفه، يتحول إلى معلومات ثنائية البُعد، تلتصق على أفقه بمساحة "بلانك" مربع واحد للمعلومة، لكن ما المعلومة؟

 

هي حالة كل جسيم في الكون: كتلته، الموضع، السرعة، اللف، درجة الحرارة… حينما نقول المعلومة التالية: "سيارة أحمد في مدينة المنصورة المصرية، بجوار مبنى كلية الحقوق"، فالمعلومة لا توجد في التقرير الذي ذُكرت فيه، ولا في صفحة الفيسبوك التي نُشرت عليها، ولا في دماغنا حينما نتبادلها معا، ولا في اللغة التي كتبناها بها، قد نكون كتبناها بإشارات مورس أو بالعربية أو باللاتينية أو بلغة الحاسوب، كل هذا لا يهم، لأن المعلومة توجد بجوار مبنى كلية الحقوق.

 

في فيزياء الكم، فإن المعلومة ليست مادة وليست طاقة، ليست شيئا نختبره بجهاز ما أو يمكن لمسه، على مدى تاريخنا استطعنا تطوير أدواتنا لضمان نقل المعلومات من مكان إلى آخر ومن صورة إلى أخرى بطرق دقيقة حتى وصلنا في النهاية إلى الرياضيات المجردة. عند تلك النقطة يطل المبدأ الهولوجرامي(9) برأسه، حيث ينص على أن من الممكن لنا تمثيل فيزياء ثلاثية الأبعاد في شكل أسطح ثنائية الأبعاد، الأمر أشبه بأن نقرأ أصل الكون بلغة مختلفة، فأنا وأنت هنا، وبيننا حوار قائم الآن، كل ذلك مهما كانت فيزياؤه معقدة يمكن تمثيله بفيزياء أسطح ثنائية البعد، لأن كل ذلك هو في الأصل معلومات، وكل المعلومات يمكن أن تُكتب على سطح ثنائي البعد.

 

تأمل مثلا لوحة "زواج العذراء" للفنان الشهير رافائيل، إنها لوحة ثنائية البُعد توضح مكانا ثلاثيَّ البُعد، بالفعل بها كمٌّ ضخم من المعلومات التي يمكن أن نستخدمها لفهم ما يحدث أمامنا. لكن هل يمكن للوحة أن تطلعنا على وجوه السيدات هناك بعيدا في اليسار؟ لا، لأن اللوحة لا تمتلك القدر الكافي من المعلومات لإعطائه لنا، هذا ممكن فقط في حالة الهولوجرام، الهولوجرام هو كيان ثلاثي البعد -فوكسلات- لكن معلوماته مكتوبة على أفق ثنائي البعد -بيكسلات-، حيث يمكن بالفعل نقل معلومات فضاء ثلاثي البُعد بالكامل إلى آخر ثنائي البُعد مع تعديلات ضخمة، الأمر يشبه أن تقوم بتحميل ما على أسطوانة ثم تقوم بعرضه فيما بعد على شاشتك الكبيرة، لكن بصورة ثلاثية الأبعاد.

 

لا يمكن الجزم

 

هل يعني ما سبق أننا حقا نعيش في محاكاة، أو أننا "في الغالب" نعيش في محاكاة؟ في الواقع، تواجه حجة المحاكاة الخاصة ببوستروم العديد من الانتقادات. على سبيل المثال، لا تشرح الفرضية شيئا عن الكيفية التي يمكن من خلالها أن نحاكي "الوعي"، الظاهرة التي تعني أنك أنت مَن يدرك أنك تقرأ هذا الكلام الآن، في الواقع يظل الوعي لغزا محيرا إلى الآن في العلوم العصبية والحاسوبية على حدٍّ سواء، ولا نجد أية طريقة لفهمه، ما بالك بمحاكاته، ولا نتحدث هنا عن محاكات شخص واحد فقط، بل تريلليونات البشر الذين عاشوا على هذا الكوكب طوال تاريخه، أو غيره من الكواكب.

 

من جانب آخر، كان عالما الفيزياء النظرية زوهار رينجل وديمتري كورفيزيني قد أشارا، في دراسة نُشرت بدورية "ساينس أدفانسز"(10) قبل عدة أعوام، إلى أنه لا يمكن لنا بناء محاكاة تعبر عن قوانين فيزياء الكمّ بأي تكنولوجيا متقدمة نعرفها أو يمكن أن نتخيلها، ذلك لأن محاكاة تطور التفاعل بين بضع مئات من الإلكترونات فقط تتطلب حاسوبا أكبر من حجم الكون المعروف، النتائج نفسها حصل عليها سيلاس بين ورفاقه من جامعة بون الألمانية(11)، فقد أشاروا في دراسة صدرت عام 2014 إلى أنه لا توجد طريقة نعرفها يمكن من خلالها أن نحاكي قوانين النظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين، التي تُمثِّل -إلى جانب ميكانيكا الكم- الأساسيات الجوهرية التي تُقام بها فيزياء هذا الكون على حد علمنا إلى الآن، والفشل في إخضاعهما للمحاكاة هو بالتبعية فشل في فرضية المحاكاة، لا يغلقها تماما بالطبع، لكنها يخفض من الاحتمالات.

 

لكن في كل الأحوال، تبقى فرضية المحاكاة احتمالا قائما، وأقصى ما يمكن أن توصف به أنها تخمين مبني على قواعد فلسفية وعلمية، إلى الآن لا يمكن لنا بأي حال أن نتأكد من صحتها أو عدم صحتها، بالتالي فإنه لا يمكن لنا الجزم بشكل نهائي تماما أننا نعيش في عالم الواقع. يبدو إذن أن مسلسل "1899"، على قدر الخيال الواسع فيه، قد امتلك قدرا طفيفا من الحقيقة!


التعليقات