أثارت تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، المتكرّرة أخيرا، ذات الطابع الشعبوي، لغطاً وموجة من التساؤلات بشأن ما يريده هذا الرجل الذي وصفه وزير الخارجية المصري بأنه عرَّاب الاضطرابات في القرن الأفريقي، والدوافع التي تجعله يتبنّي خطاباتٍ تزيد حدّة التوترات في المنطقة أكثر، وتصب الزيت على نار الحرائق المشتعلة فيها، فمنذ يونيو/ حزيران 2023 أصدر أبي أحمد تصريحات متناقضة بين التفاوض والحرب بين دبلوماسية الأخذ والعطاء، والتعاون الاقتصادي المتكامل، كلها خطابات مدفوعة لمغزى واحد، الوصول إلى المياه الدافئة في البحر الأحمر، انطلاقاً من رؤية مفادها بأن إثيوبيا من دون منفذ بحري على البحر الأحمر بعد مجيء أبي أحمد إلى الحكم عام 2018 لن تكون مختلفة عن إثيوبيا الأمس، والبقاء على الهامش شريكاً للقوى الغربية والاكتفاء بدور شرطي المنطقة لا أقلّ ولا أكثر.
ولهذا، سياسة إثيوبيا راهناً تحركها أطماع الهيمنة والسيادة في المنطقة، وهي سياسة تعزّزت ووجدت أرضية صلبة داخلياً بعد الملء الرابع لسدّ النهضة وانهيار المفاوضات مع الخرطوم والقاهرة مع حلول 2024، وهو النصر الذي أتى على طبقٍ من ذهب لأديس أبابا، ونقطة الاندفاعة القوية لتحقيق مزيد من التوسّعات نحو جوارها، وذلك بتوقيع مذكّرة تفاهم مع إقليم "صوماليلاند" في شمال الصومال، لإيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر، مقابل الاعتراف لحكومة موسى بيحي دولة مستقلة، وهو ما يمكن تفسيره بـ"التبادلية" الناجزة، وأشبه بمقايضة غير عادلة، بين ثمن الاعتراف الزهيد مقابل أرض الأجداد التي طالما رُويت بدماء الأحرار قروناً.
لافتٌ أن السرديات التي صاغها أبي أحمد ضمن خطاباته في اجتماع حزب الازدهار الحاكم وأعضاء البرلمان الإثيوبي في فترات مختلفة، كان السياق التاريخي حاضراً ومستشهداً بالاطلالة على البحر الأحمر، قبل انفصال إريتريا عام 1993، لكن ما يتنافى وتلك السردية أن مسلمي زيلع كانوا منذ القرون الوسطى الوسيط التجاري وهمزة الوصل بين العالم الخارجي والحبشة، وكانت بضائعهم تمر عبر مرفأ صغير في مدينة زيلع بإقليم أودل في أقصى شمال الصومال، وكانت مقصداً للعلم والتجارة برغم الصراعات بين مسلمي زيلع والإمبراطوريات الإثيوبية التي حكمت الحبشة منذ قرون، محاولة إلغاء الوسيط الإسلامي بين الحبشة نحو الانفتاح إلى العالم، هي الهواجس نفسها التي تحرّك أبي أحمد حالياً للتموضع في منطقة ذات نفوذ استراتيجي وأهمية جيبولوتيكية في المنطقة، التي تعتبر الحديقة الخلفية لأمن دول الخليج العربي.
كذلك، يسوِّق مؤيدو أبي أحمد مقولة إن القانون الدولي يتيح للدول الحبيسة (44 دولة) حق الوصول إلى مياه جيرانها والاستفادة بها، متناسين أن ذلك ليس بمنطق عسكرة الطموح، بعيداً عن دبلوماسية إقامة شراكات اقتصادية وتعاون تجاري، لكن استحضار القوة العسكرية في تحقيق أهداف استراتيجية والبحث عن منافد عسكرية لا اقتصادية، تحمل مدلولات أخرى، وليست إثيوبيا وحدها بلا سواحل، فأوغندا وجنوب السودان ورواندا في البقعة الجغرافية نفسها في شرق أفريقيا بلا منافد بحرية، لكن من خلال شراكات اقتصادية مع جيرانها استطاعت أن تحقق عوائد اقتصادية جيدة، ولا تحركها أطماع للهيمنة على موانئ جيرانها، بينما تريد أديس أبابا اقتطاع منفذ بحري من مياه الصومال، في انتهاك فاضح ضد المواثيق الدولية وأعراف الاتحاد الأفريقي، التي إذا اخترقها أبي أحمد فإن الانقسامات والتفكك سيحدّدان مصير الكونفدرالية الإثيوبية الهشّة أصلاً، نتيجة الإثنيات والصراعات الداخلية التي تطغى حالياً على المشهد الإثيوبي منذ حرب تيغراي عام 2020.
كان البعد الاقتصادي هو الدافع والمحرك الرئيس لمبرّرات أبي أحمد للوصول إلى البحر الأحمر عبر المياه الإقليمية الصومالية، متحجّجاً بأن عدد سكان إثيوبيا يتزايد وعلى نحو متسارع، وأن التقديرات تفيد بأن الرقم سيتضاعف متخطياً حدود 150 مليون نسمة بحلول عام 2030، ولهذا لا بد من تأمين ممرات تجارية لرفع فاتورة الإنتاج المحلي، لكن هذه الادعاءات تسقط للوهلة الأولى مع العودة إلى سجلات الاقتصاد الإثيوبي الذي يحقّق كل عام قفزات اقتصادية هائلة، واستنادأً إلى ما صرح به وزير المالية الإثيوبي أحمد شيدي في اجتماع الحزب الحاكم أخيراً، أن اقتصاد بلاده سجَّل أداء أفضل في قطاعات النمو الرئيسة خلال الأشهر الستة الماضية (2023) على الرغم من الأزمات الداخلية والخارجية، كما توقع صندوق النقد الدولي أن تحقق إثيوبيا نموا اقتصادياً بنسبة 5.7% العام الماضي، أي ما يعني قفزات اقتصادية مستمرّة وبنسب كبيرة كل عام، ما يتناقض مع مزاعم أبي أحمد للبحث عن موانئ جديدة للاستثمار فيها، و يؤكد فرضية أن أديس أبابا تبحث عن دور عسكري محتمل في البحر الأحمر، دون الحاجة إلى موانئ اقتصادية تكلفها أثماناً باهظة، وإلا فلماذا انسحبت من اتفاقية بربرة عام 2022 التي منحتها حصة مغرية (19%) التي وقعتها مع شركة موانئ دبي وحكومة أرض الصومال عام 2018، التي أعلنت أن إثيوبيا لم تلتزم بوعودها في تشييد خطوط إمداد برية تربط بربرة بإثيوبيا.
ومع تسارع ردود الفعل الدولية المنتقدة لتوجهات أبي أحمد نحو البحر الأحمر وتوقيع مذكرة تفاهم مع إقليم انفصالي لا اعتراف دولياً به، بدأ أنصارُه يصوغون مبرّرات داخلية جديدة تتمثل في أهمية المضي في تحويل هذه المذكّرة إلى اتفاقية رسمية مع حكومة أرض الصومال، من دون أدنى اعتبار لصيحات المحذرين والمعارضين، من الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) والاتحاد الأوروبي والصين وأميركا، وأخيراً الحكومة الصومالية الفيدرالية، انطلاقاً من مبدأ التجاهل والعناد في تنفيذ المطالب ثم الشروع في التفاوض مع الخصوم أو إرغامه على الشراكة في حقوقه المسلوبة، وتنفيذاً لاستراتيجية عملية ملء سد النهضة مع مصر والسودان، التي انتهت بإعلان القاهرة انهيار المفاوضات أخيراً، وهو ما عدَّه مراقبون انتصاراً للقضية الإثيوبية وحقها المشروع في الاستفادة من مياه النيل.
ولكن إذا كان موقع السد يعد شأناً داخلياً إثيوبياً، فإن مياه الصومال التي تمتلك أطول ساحل في أفريقيا هي أيضاً أمر داخلي ولا يحقّ لإثيوبيا الاستفادة منه أو المساس به من دون موافقة أو اتفاق مع الحكومة الصومالية الشرعية، حتى وإن أمضت في طريقها نحو الوصول إلى تلك المياه، مستخدمة سياسة التغافل والغطرسة العسكرية فإن ارتدادات تلك الخطوة غير محسوبة العواقب سترث المنطقة صراعات عسكرية جديدة لا يمكن قياس حجم أضرارها وتداعياتها المستقبلية.
يجادل أيضاً أنصار أبي أحمد أن الاتفاقية الموقعة بين صوماليلاند وشركة موانئ دبي الإماراتية وإثيوبيا مرَّت من دون ضجيج، ولا صخب من الحكومة الفيدرالية عام 2018، فلماذا يأتي هذا الطوفان من الانتقادات الشديدة من جامعة الدول العربية ومصر والسعودية وقطر والاتحاد الأوروبي بعد توقيع الحكومة الإثيوبية مجرّد مذكرة تفاهم مع حاكم صوماليلاند، هنا الإشكالية في العقل الجمعي الإثيوبي في التفريق بين هذا الحال وشركة إماراتية لا تبحث عن أجندات عسكرية وراء مصالح اقتصادية مجرّدة من نوايا توسعية أو عسكرية، على خلاف إثيوبيا التي ترى أرض الصومال بمنزلة ثغرة مكشوفة لاختراق الجسد الصومالي نحو البحر الأحمر، وهو ما يؤكّده الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، في أكثر من تصريح، أن أديس أبابا لا تريد موانئ تستثمرها، بل تحاول إقامة قاعدة عسكرية تضمن لها الاحتلال والهيمنة على المياه الصومالية.
في النهاية، لا يحمل أبي أحمد أجندات سياسية واقتصادية واستراتيجيات بنّاءة بقدر ما يحمل خطابات شعبوية لا تخدم آلية منع تآكل البنية الإثنية الإثيوبية من الداخل، خصوصاً بعد فشل المفاوضات مع جبهة فانو الأمهرية، وازدياد هجمات مسلحي جبهة أورومو ضد الجيش، والقبضة الأمنية المسلطة على نخب الأمهرة والأورومو السياسية، وذلك في وقت لا يزال إقليم تيغراي يئن من وطأة الحرب ويبحث عمّن يميط اللثام عن آلة الحرب والدمار التي قست على سكان الإقليم، يفجر أبي أحمد نزاعاً دبلوماسياً وربما سيتطوّر عسكرياً لاحقاً مع الصومال الذي خاض أبناؤه صراعات مريرة مع الإمبراطوريات الإثيوبية منذ القرون الوسطى، فهل يعي أبي أحمد خطورة الموقف ويسحب مذكّرة التفاهم، استجابة للمواقف الدولية والإقليمية الرافضة لهذه المذكّرة، أم سيظل يردّد مقولة المحارب الحبشي "البحر الأحمر هو الحدود الطبيعية لإثيوبيا" حتى يخرج الوضع عن السيطرة ويتحول القرن الأفريقي إلى فوهة بركان مشتعلة يصعب إخمادها سريعاً؟