[ 90 فتاة معاقة في مأرب والجوف.. معاناة قاسية في ظل الحرب ]
مع الطيور باكرا غردت مينا عبد الله علي محبوب (20 عاما) بنشاط تداعب أوراق الشجر وتقتلع سيقان العلف والقصب لتطعم مواشيها وأغنامها كالمعتاد كل صباح برفقة أخاها الأصغر في إحدى مناطق محافظة مأرب شمال شرقي اليمن.
ذهبت مينا إلى وادي الفاو بالقرب من مفرق سد مأرب الذي ربت الحشائش فيه دون قطاف لمدة عام تقريبا بسبب الحرب التي دارت هناك دون قدرة الرعاة والمزارعين على دخول مزارعهم التي دخلها الحوثيون وزرعوها بالألغام والعبوات الناسفة حينها قبل خمسة أعوام.
ذهبت "مينا" إلى وادي الفاو بعد خروج الحوثيين من المنطقة بعام تقريبا، لتعود بحمل من الأعلاف على متن سيارة والدها العجوز لتطعم مواشيها، لكنها عادت إلى منزلها بلعبة حديدية كروية صلبة راقت ألوانها لـ"مينا" فأخذتها من وسط الأشجار وعادت بها إلى منزلها وسط وادي عبيدة شرق مدينة مأرب.
"ذي كأنها لعبة" قالت "مينا" بلكنتها المأربية الخشنة ودست لعبتها في جيبها بعد اللعب، واحتفظت بها حتى في منامها "حطيتها عند رأسي حتى اليوم التالي"، حسب "مينا".
ومع وجبة الإفطار اجتمعت الأسرة المكونة من أب وأم وثلاثة أخوة في حوش المنزل الطيني ذي الطابع البدوي المأربي القديم وتحت عريش سقفه من الصفيح وخشب البرتقال الذي تشتهر به محافظة مأرب الصحراوية.
لم تغفل الأم عن ابنتها الشابة وما تلعب به بين يديها بشكله غير الطبيعي، "قلت لها ما هذا الذي في يدك؟"، فأجابت "مينا" إنها لعبة عثرت عليها، قلت "هذه يمكن تنفجر فينا يا بنتي"، فردت الفتاة "هي لعبة يا أمي"، هكذا روت الأم آلام قصة ابنتها ولعبتها.
تضيف الأم بحزن أن "تركي" وهو شقيق "مينا" عند وصوله دعته "مينا" لتريه ما معها وأخرجتها من جيبها وما أن ظهرت اللعبة حتى انفجرت بشدة كبيرة وتطايرت شظاياها في زوايا المكان وأصابت الجميع وقتلت أحد إخوانها.
تقول الأم إنه بعد الانفجار عم الصراخ المكان ودخلت بغيبوبة تامة عندما شاهدت ما حل بأبنائها جميعا.
"تركي مات ومينا وأشقائها أمل، وخالد وعبد الله، أصيبوا".. هكذا قالت الأم بصوت مليء بالأسى والحزن.
عبد الله محبوب، رب الأسرة المنكوبة، يقول إن ابنته "مينا" لم تعلم بموت أخاها تركي "نقول لها هو بخير وقد سافر السعودية، لأنه -حسب رب الأسرة- ربما تنزف من جروحها لو عرفت بمقتله".
يضيف الوالد بحسرة "الحمد لله هذا قضاء الله وقدره"، محملا الحوثيين كل المصائب.
علي التام، الناشط الحقوقي ورئيس منظمة حماية، قال إنه وثق ورصد هذه الحادثة في حينه، مؤكدا أن اللعبة التي انفجرت بمينا هي لغم زرعة الحوثيون في المزرعة.
وأوضح أن المتضرر الأكبر بعد مقتل تركي هي "مينا" التي باتت اليوم معاقة ومبتورة قدمها اليمين ونصف ذراعها اليمين.
وقال التام إن "هذا الحادث مأساوي وكارثة حلت بأسرة واحدة وإنها لن تكون الحادثة الأخيرة وليست الأولى وقد سبقها أسرة آل القطيش وآل القحاطي وأسرة سليمان، وكلها أسر من خمسة أو ستة أفراد يقعون ضحايا الألغام الحوثية ما بين قتيل وجريح ومعاق إلى الأبد".
وذكر التام أن المرأة المأربية لم تنجُ من انتهاكات الحوثيين وأنها كانت ولا زالت ضحية الألغام التي انتشرت وترصدت خطاها في المزارع والمنازل والطرق، كما تعرضت أيضا للقصف الحوثي على المنازل وسقطت نساء في مأرب ونازحات في المدينة أيضا بين معاقات وقتلى ومصابات بقذائف الحوثيين، حسب التام.
وأردف التام أن النساء المعاقات انتقلن من حالاتهن الطبيعية المعتادة إلى حياة ذوي الاحتياجات الخاصة المريرة دون النظر من أحد إلى وضعهن ومعاناتهن.
يقول الحقوقي علي التام إن تدخل المنظمات الدولية في مثل هذه الحالات ضعيف جدا، بل يكون هامشيا، ولم تتلق تلك الفئة النسوية من ضحايا الحرب والألغام عدا أطراف صناعية، دون أي تأهيل نفسي ولو في حدوده الدنيا ولا دعم أو لفتة إنسانية لمساعدتهن على الاندماج مجددا في المجتمع ليعدن لممارسة حياتهن الطبيعية كزوجة وأم في مستقبلها، ولكي لا تكون الإعاقة عائق أمامها.
وأردف التام قائلا "يفترض أن تكون هناك رعاية خاصة ومعونات ومساعدات، وكذلك تعويضات لمثل هذه الحالات، لأنهن من النوع الاجتماعي النسوي، سواء من السلطات الرسمية أو المنظمات الحقوقية وكذلك الأطفال، لأنهم ضحايا حرب وليسوا أطرافا فيها.
واستدرك أن عدد الإصابات والإعاقات والقتل والدمار في أوساط المدنيين بمأرب والجوف مرشح للزيادة ما دامت الحرب مستمرة، ولم تتوقف بعد والقصف مستمر بشكل عشوائي عليها.
وأكد التام أن المرأة لم تصبح بمأمن في مأرب والجوف حتى اليوم من هذه الهجمات الصاروخية والألغام المترقبة لهن تحت التراب وفوقه، بل وأصبحت تلك الألغام شبحا يطارد الجميع ربما على مدى سنين.
وأوضح الحقوقي التام أن المديريات الشمالية والشمالية الغربية من محافظة مأرب لا زالت مليئة بالألغام ولم يتم تطهيرها أو لم تقتربها عمليات نزع الألغام، مؤكدا أنه لم يتم إعلان أي منطقة رسميا في مأرب أو الجوف على أنها أصبحت مناطق خالية من الألغام، كي تعود الأسر بعد النزوح إلى منازلها ومزارعها آمنة.
وحسب إحصائيات تقرير مكتب حقوق الإنسان بمأرب والتي حصل عليها "الموقع بوست"، فقد سقط خلال الحرب 430 قتيلا مدنيا بسبب الألغام والقصف على المدينة من بينهم 60 امرأة منهن 20 امرأة قتلن بسبب الألغام والعبوات الناسفة التي زرعها الحوثيون، بينما جرح 1075 مدنيا منهم 131 امرأة من بينهن 43 امرأة معاقة بإعاقة دائمة بسبب الألغام والعبوات الناسفة.
وفي محافظة الجوف القريبة من محافظة مأرب، قالت منظمة الجوف للحقوق والحريات لـ"الموقع بوست" إنها رصدت تعرض 46 امرأة وفتاة لإصابات مختلفة وإعاقات دائمة، منهن أكثر من 23 حالة وفاة بسبب الألغام والقصف العشوائي واستهداف منازل المدنيين من قبل الحوثيين بمحافظة الجوف خلال عام 2019 فقط.