أن يردد إعلام الانقلابيين أن عمليات التحالف العربي هي عدوان سعودي على اليمن فذلك أمر طبيعي يفهم من قبيل الحرب الإعلامية لوكلاء إيران باليمن ضد المملكة، لكن أن ترِد مفردة "عدوان" على لسان سفير دولة محترمة مثل ألمانيا فالأمر إذن بحاجة إلى تصحيح في الرؤية وتوضيح في الصورة.
ويقينا فإن أغلب، إن لم يكن كافة، الأطراف الدولية المهتمة بالشأن اليمني تعي جيدا حقيقة ما تجري وتدرك أن عمليات التحالف الذي تقوده السعودية لإعادة الشرعية في اليمن، هي ضرورة وجودية تحتمها حسابات الأمن القومي العربي عموما والخليجي بوجه أخص، باعتبار اليمن جرءا من أمن الخليج، وباعتبار أن الانقلاب الحادث في صنعاء ليس مجرد أزمة سياسية داخلية بل عمل عدواني مدروس تقف خلفه إيران بأطماعها التوسعية ونزعتها الفارسية ضمن أجندة تخريبية ينفذها وكلاء طهران في أكثر من بلد عربي.
كما نعلم يقينا أن المجتمع الدولي رغم إدراكه لحقيقة التحالف ومشروعية عملياته باليمن إلا أن بعضه يسعى لابتزاز الخليج في الملف اليمني لأسباب بعضها مادي، وبعضها الآخر متعلق بنفسية التعالي التي تستكثر على دول المنطقة أن تدافع عن أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية من ذات نفسها ودون توكيل الغير في الذب عن وجودها، وهو بالطبع ما لم تعد دول المنطقة محتاجة له.
والشاهد في التوطئة أعلاه، أن ألمانيا حسب اطلاعي، لم تكن يوما من دول الابتزاز المادي، ولا من دول التعالي، بل والمؤكد أن مسألة التعاون بينها وبين اليمن كانت في العقود الماضية من أنظف الأجندات فلماذا إذن يخسر الألمان سمعتهم الطيبة ويسعون إلى إيذاء مشاعر الشعب اليمني الذي يكنّ لهم كل احترام ويقفون مع من يمعن في تقتيل الشعب وسلب دولته وإقلاق أمنه وسرقة أحلامه.
أغلب الظن أن السفير الألماني بتصريحاته التي نقلت عنه في ندوة بلندن قبل أسابيع، تنطلق من استدلالات مغلوطة وليس بدافع كيدي ولا تآمري، ولذا وجب التوضيح له عن حقيقة مكانة اليمن لدى المملكة العربية السعودية، وكيف أن كافة القرائن والبراهين والشواهد تجعل من أي سياسي يصدق اسطوانة "العدوان"، محط سخرية ومثار استغراب.
وعديدة هي الشواهد والقرائن والبراهين يا سعادة السفير، وعادة ما يحار المرء حينما ينوي تأكيد حقيقة ساطعة وواقع معاش، وقديما قالت العرب: وهل يبقى من الأفهام شيءٌ.. إذا احتاج النهار إلى دليلِ.
مع هذا فلنبدأ بالتذكير ببعض البدهيات الواضحة في هذا السياق، والتي منها أنه لولا الانقلاب لما كان ثمة تحالف عربي، وأن الانقلابيين لو تخلوا عن انقلابهم وسحبوا ميليشاتهم الارهابية من عواصم المدن لتوقفت عمليات التحالف على الفور ولأصبحت المملكة تتحمل العبء الأكبر من مهمة الإعمار واصلاح ما دمره الانقلاب والحرب.
من جهة ثانية، نود أن نلفت عناية سعادته إلى أنه لم تحدث على مدى التاريخ ولن تحدث، أن بلدا يقود عمليات عسكرية على افتراض أنها معادية لجاره، ويحتضن في ذات الوقت قرابة 4 مليون مغترب من ذلك البلد يشكل هؤلاء عصب الاقتصاد اليمني، إذ لو كانت المملكة تنوي شرا لليمن لما احتاجت لكلفة الحرب ولكان تسريح هذا الرقم المهول هو أكبر حرب وأكبر عدوان على اليمن. (والحديث هنا بطبيعة الحال، يتجاوز المخاطر الأكيدة من الانقلاب الثيوقراطي الخبيث على الشعب اليمني وكيف أن نجاح مثل هذا الانقلاب معناه خسارة اليمن لكل الأشواط التي قطعتها في سبيل اللحاق بعجلة الحضارة وركب البشرية فهذا الأمر لا يحتاج هنا إلى مزيد توضيح).
وعلاوة على كون عمليات التحالف جاءت بطلب من الحكومة الشرعية وتأييد الأحزاب والمجتمع ومباركة مجلس الأمن، فإن من المفيد أيضا توضيح المكانة الخاصة التي تحتلها المملكة في اليمن وكذا الأهمية التي يحتلها اليمن في سياسات المملكة، وكيف أنها كانت منذ نحو أربعة عقود هي الداعم الرئيسي لميزانية الحكومات المتعاقبة والممول الأبرز لصفقات تسليح الجيش اليمني، ذلك السلاح الذي أريد به بعد ذلك أن يرتد إلى جسد المملكة وأن يصبح مصدر إقلاق لأمنها، ولقد كان لي اهتمام شخصي بتاريخ التعاون الثنائي بين اليمن والسعودية واطلعت على جانب من المساعدات العسكرية وغير العسكرية التي قدمتها الرياض لصنعاء في مراحل مختلفة، ومن تلك الصفقات على سبيل المثال منحة المليار دولار التي استلمها علي عبدالله صالح من الملك فهد بن عبدالعزيز مطلع الثمانيات واشترى بها سلاحا من الاتحاد السوفيتي وتعتبر تلك الصفقة هي عماد تسليح الجيش اليمني، تلتها صفقات متعددة آخرها كان في مجال الدفاع الجوي. ولعل زوايا وأركان قاعدة الديلمي الجوية بصنعاء خير شاهد على سخاء الدعم السعودي لتقوية شوكة اليمن. وبدهي أن المملكة لو كانت تريد يمنا ضعيفا كما يردد الانقلابيون، ما قامت بهذا الدعم من أساسه، كما هو بدهي أيضا أن تحويل السلاح المشترى من مال المملكة ليكون في خاصرتها هو أمر مرفوض من المملكة ومن كافة شرائح الشعب اليمني.
وعدا ذلك ظلت ميزانية الجيش اليمني ورواتبه وكذا بند التغذية الخاص به لسنين طويلة، أمرا تكفلت به المملكة تماما مثلما كانت متكفلة لعقود طويلة بمرتبات مدرسي الإعارة من مصر والسودان وسورية والطلاب اليمنيين المبتعثين بالخارج مع تخصيص نسبة لطلاب اليمن في الكليات الامنية والعسكرية السعودية..
إلى ذلك ظلت المملكة تقوم بكل واجبات الجوار الحسن وحملت على عاتقها العديد من التزامات اليمن، بما في ذلك الرسوم المالية الخاصة باشتراكات اليمن في المنظمات الدولية، حتى شركات ترسيم الحدود بين البلدين تكلفتها على المملكة. ولعل في العودة إلى أدبيات مجلس التنسيق اليمني السعودي شواهد لا حصر لها، كدلالة دامغة عن مستوى الدعم السعودي لليمن ثم بعد يأتي من يهرف بالقول إن المملكة تهدف لإضعاف اليمن. وحقيقة فإن آل سعود لا يجيدون المنّ وهذا السمت عادة متأصلة فيهم جعلتهم ملوكا في بلد كل أهله في ظلهم، ملوك.
وبعيدا عن الشواهد المرئية ثمة مجالات عدة تبين مستوى التكامل الاقتصادي والتداخل الاجتماعي بين البلدين من ذلك مثلا، أن السعودية تعد السوق الأبرز لكل منتجات اليمن. كما أن أغلب السياحة الوافدة لليمن هي سياحة سعودية. واجتماعيا يكاد يكون موطنو اليمن والسعودية شعبا واحدا في دولتين، إذ أن أرومة البلدين متجانسة إلى حد كبير، ويرتبطان بنسبة مصاهرات هي الأعلى عربيا، علاوة على مصفوفة فريدة من الخصائص النفسية والوشائج الأسرية تجعل من علاقة البلدين ذات خصوصية متفردة على مستوى المنطقة. وهو ما يدركه الوعي الجمعي اليمني جيدا ولذا ترى المواطنين اليمنيين بمجرد وصول الجيش الشرعي يرفعون الأعلام الوطنية جنبا الى جنب مع صور الملك سلمان بن عبدالعزيز.
فارق كبير بين من لا تعرف اليمن منه إلا كل خير، وهي السعودية، وبين من يمد ميلشياته وأذرعه بسفن الأسلحة والمخدرات ويمعن في غرس الطائفية والعنصرية ويريد أن يغتال حاضر اليمنيين ومستقبلهم، وهي إيران.
وكل ما سبق ليس معناه أن الرابط بين المملكة واليمن رابط مصلحة فقط، بل هو قبل ذلك وبعده، ارتباط مصيري، يجعل من أمن كل من البلدين جزءا حيويا في منظومة أمن الآخر.
خلاصة الأمر يا سعادة السفير الموقر، أن العدوان الحقيقي على اليمن هو ما تمارسه إيران وأذرعها، وأن كل من يتغاضى عن جرائم الانقلابيين، ويردد اسطواناتهم المشروخة، ويسمي الأمور بغير مسمياتها، سيكون غريما لليمنيين في قادم الأيام، ذلك أن المشروع الإيراني فاشل في اليمن لا محالة، ولن يتهاون اليمنيون مع كل من تواطأ مع هذا المشروع.