اغتيال المدينة
الاربعاء, 26 يوليو, 2017 - 11:54 مساءً

تستطيع أن تغلق عينيك عن شيء لا تود رؤيته , لكن قد تقف عاجزاً عن إغلاق قلبك أمام خبر لا ترغب بحدوثة أو عاصفة على هيئة نبأ إغتيال صديق أو رحيل عزيز.
 
الدناءة هي الغريزة السائدة لدى القتلة ، ومن يمتهنون الخيانة والغدر لا يخجلون من توصيف ذلك بالخدمة المجانية التي يقدمونها للمجتمع المستهلك للأحزان!
 
بات الحزن هو الصورة الأكثر قتامةً وتعبيراً عن واقع مدينةٍ تكتسحها الفواجع المتلاحقة ويستمر فيها نزيف الشجعان.
 
ليس من السهل تحمل صعق كهربائي يصعق الجسد والروح معاً بشحنات كهربية عاليه، وكذلك هو الحال مع فولتية صعقات الإغتيالات المتكررة تُصعق مدينتي ممشوقة الأحزان بتيار مستمر من اخبار معنونة بالأحمر مضمونها رحيل رجال لا وجود لنسخٍ مماثلة لهم ولن يكررهم الزمن.
 
منذ عامين تصعقنا الفواجع تباعاً، غير ان خبر استشهاد صديق في مواجهة المليشيا يختلف عن نبأ استشهاد صديق برصاصة غادرة في شارع مدينة حررها من الغزاة، لم اكد انتهي من الحزن على صديقي عمار الصراري، الذي كان يملئ الساحات والجبهات ضجيجاً يبعث على الحياة، عمار الصاخب سلبت روحه رصاصة صامتة ، حتى اللحظة تدور في رأسي تساؤلات عدة وتعصف بذهني الف علامة استفهام حول حادثة اغتياله، ثمة غموض يلف الحادثة، توقف دوران علامات الاستفهام في رأسي، وتجمدت التساؤلات مع نبأ اغتيال الأستاذ والمربي الفاضل احمد الشرماني، لعل الكثير شاهد حوادث سير مؤلمة مثل اصطدام شاحنة بسيارة اجرة وموت كل من فيها، لكن ثمة صدام أكثر مأساة من ذلك، انه صدام بين حزن وآخر في ذاكرة شاب لم يعتد على حوادث سير في ذاكرته، انه امر يشبه اصطدام دراجة هوائية بقطار يسحقها ثم يمر في طريقة!
 
إنها الصورة الكاملة لحزن يكتسح القرى والبوادي بفواجع متلاحقة، مديريتي يخيم عليها الحزن برحيل اثنين من ابنائها الأبطال، ثمة بيوت ومناطق أخرى مظلمة أيضاً بفعل عمليات الاغتيال الحديثة، في احدى جروبات الواتس قال احد ابناء المنطقة:
 
احترقت اكبادنا لم نعد نحتمل.. اللعنة ، وددت لو انه لم يقل ذلك ليس كبتاً لمشاعره ولكن حتى لا يسمع الحزن مقولته ويوجعنا بآخر، فالحزن يخيم على من وقف عند حد النواح ونحن ابناء مدينة لا تنوح، قال آخر بحزن:
 
ان هذه الحرب وقودها الشرفاء والابطال، قلت له ان الشهداء ليسوا حطباً او وقوداً لحرب بل دعائم وطن خائر، وعكاكيز بلدنا المكسور وبهم يقف شامخاً.
 
يستهدف الجبناء مخزون المدينة من الرجال ظانين انهم بذلك يغتالون المدينة وحلمها ومشروع الدولة فيها، وذلك ما لن يحدث فلا يمكن لرصاصة مرتعشة ان تغتال حلم مدينة، تقول تعز ذلك.
 
رحل عمار ومن الصعب احتمال رؤية دموع ام سبعينية العمر تذرفها أسفًا على شاب ثلاثيني استطاع بأسلوبه صنع علاقات حميمية مع أجيال متفاوتة، وانتماءات متعددة الا مع كاتم الصوت الغادر.
 
استشهد الأستاذ احمد، وليس من السهل على مدينة كتعز ان تودع رجل نادر بنسخة فريدة من الوطنية والجسارة ، سيحتفل حسام ابنه الشهيد بقدومه وسينشب حريق في قلب زوجة شهيد وأم شهيد، حريق يصعب إطفائة، تشعله الدموع كلما خبا سعير إشتعاله، ربما لن يحدث ذلك كون زوجة استاذنا احمد مناضلة لربما تمنت الشهادة قبلهما، لكن يبقى الحزن شعور لا يمكن السيطرة عليه.
 
كان احمد الشرماني ، الرجل القروي المثقف الأستاذ الذي زاد جسده صلابة عمله الشاق قبل ان يصبح استاذاً فهو ذلك الرجل الشريف الذي يأكل من عرق جبينة حلالاً، قبل أشهر كثيرة جمعتنا جنازة شهيد ووجبة غداء ، وبعد ان انتهينا اصطحبنا الطريق معاً، لم اكن اعرف انه ابن ماويه التي انتمي اليها عرفت يومها ، ماوية التي يتهمها البعض بالخنوع بينما ترد عليهم برفدها لجبهات المدينة بقادة امثال احمد وعمار وحسام والعامري وغيرهم كُثر، افتتح حديثه وسريعاً ما وصلنا نقطة سنفترق عندها سيذهب هو الى الجبهة حيث مترسه الذي الفه، وسأواصل انا طريقي حيث مكان عملي، لم ارغب ان ينتهي حديثة فقد كان حديث بطل لا يُمل، يسردُ تاريخاً مشرفاً وينسج لوحة فخر بأسمه ونيابةً عن وطن وهبه فلذه كبده ودمه.
 
كان عمار صديقي الذي اختاره كاتم الصوت كذلك قائداً سيطول حديثي ان اخذتكم في جولة حول بطولاته لكن يكفي ان تسألو الصلو وجبهة غرب المدينة ومقر اللواء 35 عنه.
 
وفيما يستمر مسلسل استهداف القادة والرجال فيما البعض يعبثون بأمن المدينة لا تطالهم رصاصات الغدر بل يحصدون العائدات والضرائب، ذلك مشهد لا يمكن احتمال مشاهدته.
 
الذين لم نرهم ولم نمش خلف نعوش جنائزهم، مازالوا أحياءً، هكذا نؤول لأنفسنا للتخفيف من أعباء الأسى والبوس المخيم على ارواحنا.
 
ستُكرم مقبرة الشهداء بأبطال جدد وجثامين ثقبتها رصاصات الغدر التي ثقبت قلب المدينة قبل اجسادهم ، دفنا عمار وآخرين استشهدوا غدراً، نجل قائد الشرطة العسكرية كذلك ودعه وداع الأبطال قرباناً في سبيل الوطن ، وسنودع أحمد الى مثواه الأخير ليس اليوم او غداً بل بعد غد، تنفيذاً لوصيته ان لا يدفن بعد استشهاده الا يوم الجمعة، هكذا يصنع السامقون تاريخهم احياء واموات.
 
بعد أيام سننسى هذه الفواجع، على وقع فواجع اخرى، سيصمت الناس، ستخجل بيانات الإدانة ولن يخجل القادة ، سيتناول القاتل الماء البارد بيده التي باشر بها القتل ، بينما ستستقبل السماء دعوات حارة وحارقة، لابد لها من ان تشعل حياة الغادرين ناراً بحجم الأحزان المتقدة، واما ارض المدينة فستفتح حضنها لأحبة جدد، قد تستمر الفواجع وتُفتح مقابر اخرى، وتُنكأ جراحنا من جديد، غير أن هذا لن يكون نهاية المشهد، فالأرض التي تحتضن كل يوم حراً، لا بد وأن يلتهم قاعها قاتلاً، والمدينة الجريحة لن تظل كذلك، فلكل مغدور ولَدٌ يحمل اسمه ، لن يجف نسل الأبطال، ورصاصات الغدر لن تجد مكاناً غير صدور مطلقيها، كل شهيد تنتظره جنة، وكل قاتل ينتظره موت، ولعنة دهر أبدية.
 

التعليقات