لم تكن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر ثورةً عابرة؛ بل كانت ثورة الجمهورية الأولى والخلاص الأول للشعب اليمني المكبل بين أسوار الحصار السياسي والاقتصادي والفكري المضروبة حول اليمن من كل جانب، لكسر السيف وهدم السجن، ودحض خرافة الإمامة وفزّاعة الإمام، قامت لتهدم صنم السلالية والمذهب الذي دعمته الدول بالعملة الفرنسية والذهب؛ لوأد حلم اليمن الأول والمرتقب.
سبتمبر التاريخ أيلول اليمن شكّل محطة تاريخية حط فيها الشعب اليمني رحاله وغير فيها مساره، وصقل في ظلالها صافناته وجياده، وتهيأ للانتصار، المحطة الكبرى ثورة الألف عام، استلب فيها الشعب اليمني شمسه وضحاه من دجى الكهنوت ومن أحقاده الغائرات، تغنّت فيها السماء وشَدَّ العازفون أوتارهم، وطارت الأصوات صبيحة الثورة تنشد شعراً غناءً هياماً؛ ملأ الكون نشيداً وفرحاً.
ترنم الشعب غداته بأحلامه ابتهاجاً، وعزف أروع ألحانه فرحاً، وأوّبت معه كل جبال اليمن، من حضرموت الدان حتى أقاصي جبال صعدة الحميرية، رددت سهوله وحقوله مواويلَه؛ فملأت غلاله منها قمحها وأنواع رمانها والثمار.
تشظّت براكين ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في صدور الرجال فشكلت سداً منيعاً أوقفت سيول الإمامة الجارفة بالأمس، والتي كادت بِظلَالها أن تعود، غير أن رجال الشعب اليمني عاهدوا الله ثم روّاده وكل الذين ماتوا فداءً له، أنهم لن يخونوا أماناتهم التي أودعوها عندهم، ولن يحيدوا عن الدرب الذي رسموه ولن ينحنوا لباغٍ بعد انتصاب قاماتهم، وذاقوا رحيق الحرية من شامخ كل تل وجبل، زرعوا فيه أشجارهم وأورقت عنده تضحياتهم، وبسقت فيه أغصانهم رووها بدمائهم الطاهرة الزكية فبلغت عنان السماء.
غادروا الدنيا غير أن تضحياتهم لم تغادر؛ بل أشعلت شموساً من الضوء في عروق الأجيال من نسلهم، فغدا يقود المعارك كل حرٍّ، يملأ التاريخ أسفاره بأروع الملاحم ضد أحفاد الإمامة الخارجين من عصور الظلام، فمزقوا كُتُبهم المنسية التي تتطفح بالحقد والروع والطائفية، وباتت تاريخاً تحتقره الأجيال الحميرية جيلاً بعد جيل.
معركةً تاريخية يخوضها الشعب اليمني مع بقايا الإمامة المندسين في شرايين جسده المثخن بجراحه النازفات، غير أن كبرياءه عصية على الهوان والانكسار مهما نزفت فيه الجراح، أجيال رضعت النجابة شموخاً من شموخ الشموخ، تكاثرت في جانبيه نجوم السماء بأنوارها المتلألأة، تسمو وتشرب من ماءها وتعبق أرجاء اليمن بأنفاسها الطيبات، ازدحمَ الأفق بأرواحها تنادي سبتمبر التاريخ لن نخُنْك نحن هنا!! سنقهر الكهنوت وحُجَّابه ونذبحه على عتبات أعتابه.
وبرغم العمق الحضاري لليمن لم يشفع له تجاوز مراحل الحروب والاختلافات والصراعات التي بذرتها الإمامة السلالية وأنبتها إصرارها على تشويه الهوية واليمنية، من خلال طمس المآثر التاريخية والمعالم الحضارية حتى يتسنى لها السيطرة عليه، حيث هدموا السدود بداية في محافظة صعدة (سد الخانق) الذي بناه والي صعدة الحميري "نوال بن عتيق"، والذي كان يعتبر ثاني سدود اليمن بعد (سد مأرب) في السعة والأثر، هدمة العلوي السلالي إبراهيم بن موسى.
ثمانية وثمانون سداً صاغت اسم (اليمن السعيد) بين الأمم هدمتها الإمامة في سلسة هدمها لآثار اليمن؛ تدميراً لمصادر عيشهم، وتفريقاً لأيادي اليمنيين وزرعاً للشقاق بينهم، معالم سحقتها أياديهم المصابة بعقدة النقص الحضاري والفقر التاريخي، كونهم كانوا من سكان الخيام رعاة الشاة والإبل؛ لتحل محلها مزاعم الولاية الدينية والانتماء للدين، ورفض الهوية والانتماء للوطن.
جاءت ثورة 26 سبتمبر نتاجاً لتراكم حضاري اعتلج في قلوب شعبٍ حرٍ أبيٍّ؛ أبى الظلم وأنكر التسلط فقولبت الإنسان اليمني من جديد فكراً وسلوكاً وحياةً؛ ليعيش في أمنٍ وعزٍ وسلام، مجتازاً مرحلة الفوضى واللادولة، والتناحر المجتمعي المذهبي العائق للتقدم والازدهار، هدماً لتلك الحقبة السائدة التي كان يعاني منها اليمن منذ قرون طوال.