قبل أقل من شهر، مرّت ذكرى عزيزة على قلبي ، الذكرى الخامسة لزواجي ، كنت أحاول أن أحضّر لنفسي فرحة ً أخبئ فيها قلبي ، ولو ليومٍ واحد ، ليومٍ واحدٍ فقط ، كإجازة على الأقل ، من كل هذه الغيوم السوداء ، التي تأبى أن تزول من سماء أيامنا الحالكات ، ليومٍ فقط أنتشل ابتسامة من بين ركام الحزن والقلق والخوف والهموم ، والتآكل الذي نعيشه جميعا ، ويلتهم لبّ الحياة في نفوسنا كما لو كانت وجبةً دسمة ..
حاولت أن أستحضر أجمل الذكريات التي مررت بها ، وكلما استحضرتُ ابتسامةً ، نازعتها في ذاكرتي دموع اللواتي أكل الحزن أيامهن البيضاء ، والتهمت الحرب أحباءهن ، إما للمقابر أو للمعتقلات والسجون ..
كلما تذكرت وردة نبتت بين قلبين ، زاحمتها في مخيلتي يدّ الحطابِ ، التي اقتلعت كل أشجار الحلم ، فذبلت كل ورود الحياة ، واجتثت الفرح والسكينة من كل القلوب ، بعدها حاولت أن لا أتذكر شيئا ، وأدركت أن لا فرصة للهرب أو النجاة مهما حاولنا .
حسن ، سأحاول أن لا أتذكر ولا أتخيل ، سأوقف زر التفكير قليلا ، ربما أصبح هكذا أقدر على الابتسام والفرح ، أطفأت كل وسائل التكنولوجيا ، التلفاز النت الهاتف ، ربما هكذا أتمكن من الهرب ، ولكنني سمعت طرقات خفيفة على الباب ، من ؟ إنها نازحة تتوسل وأولادها الأربعة يتشبثون بجسدها ، علها تقيهم من الضياع ، وعلهم يخففون عنها كل هذا البؤس ،وهي تقول : " ولا اشتي شي ، اذا معش أي حاجة أجيبها لعيالي يأكلوا بس " ، لا فائدة ، ثمة زر لا أستطيع إيقافه مهما فعلت ، زر القلب الذي أصبح الألم كل أثاثه ، لا داعي للتلفيق والكذب على أنفسنا ، لقد باعدوا بيننا وبين أفراحنا ، كبعد المشرق والمغرب .
ثمة ذكرى وحيدة ينبغي أن يتذكرها اليمنيون جيدا ، سواء تبدلت الظروف والأحوال أو بقيت ! ذكرى سوداء سلبتنا وطنا ، كنا ننام ونستيقظ ونحلم في أحضانه ، حتى وإن كنا على الرصيف ، فأي كارثة دون هذه الكارثة هباء ، هذه أم الكوارث التي اغتالت كل شيء جميل ،وحرمتنا حتى حق الحياة ، بل حولت صفحة هذا الوطن إلى منبت لرؤوس الشياطين ، استبدلت القلم بالرصاصة ، والموسيقى بأصوات القذائف ، والزوامل التي تحشد صورة الموت في ذهن كل سامع ، والمنازل بالقبور والسجون والمعتقلات والشوارع ، والغذاء بالقمائم و أوراق الشجر ، وكل شيء بشيء واحد هو الخيبة ، والخيبة وحدها لا تكفي لتصف كل ما حدث ويحدث .
هل كل هذا يكفي لنتذكر يوما سقط فيه الوطن بئرا لا قرار له ، هل كل هذا يكفي لنتذكر الإبادة الجماعية التي يعيشها الشعب منذ ذلك اليوم قتلا وخطفا وجوعا ومرضا وجهلا ، فمن سلم من هذه لم يسلم من أختها ، هل يكفي لنجدد ذكرى هذا اليوم في حياتنا وحياة أبنائنا وأبنائهم كل عام ، كي نسمع صدى صوت النشيد الوطني ، يجفف نبع صراخهم ،ويبدد غبار زيفهم وضلالهم .
كنت دائما أتساءل لماذا حدث كل هذا ، رغم حدوثه بحذافيره فيما مضى ، في زمن الأئمة السابقين ، فالزمن لم يعد الزمن ، والناس لم يعودوا أولئك المساكين ، ففيهم الطبيب والعالم والمهندس والمعلم وووو ذكورا وإناثا ، لم نعد بلد واق الواق ، فقد رآنا العالم ورأيناه ، سمعناه وأسمعناه ، والعالم كله بحضارته أصبح بين أيدينا ، نتبادل تفاصيله كل وقت ، وفي أي لحظة ، أقصد أن البيئة لم تعد ملائمة أبدا ، حتى عقلوهم ظننتُ الزمن أحدث فيها شيئا من التغيير والتجديد والوعي ، واليوم جاءني الجواب ، عندما قرأت عن الأب الذي ذبح ابنه فداء للحسين ، في أحد المباكي الحسينية .
هكذا إذاً !! كل هذا لأجل الحسين ، ذُبح الوطن في21سبتمبر 2014 ، من الوريد إلى الوريد فداء للحسين ، لكن يا ترى ما هو المقابل بالضبط ؟ هل سيحجز لنا الحسين مكانا أفخم في الجنة مثلا ، أم أننا سنبرد بذلك حرقته وحرقة محبيه على نفسه . أم أنه سينبت لنا حسين آخر ، من ذرات التراب التي شربت دماء هذا الوطن ، فينفخ فينا الروح من جديد !!!! وهل سيوزَع التفاح في الجنة للجميع ، أم أنها ستكون فقط لأصحاب الراية الحمراء ، الذين سفكوا الدماء لينبت من جديد ؟ الذين سيتمرغون ويتقطرنون بعد أيام باللون الأخضر ، ليذكرونا بفيلم الضفادع البشرية ، الذي لا ينطبق عليهم منه إلا الاسم فقط ، لأن أبطاله كانوا يعضّون على وطنهم بالنواجذ .
عندما يكبر أبناؤكم ، قولوا لهم أن الحوثيين خرجوا من كهوفهم ، وجعلوا من الشعب والحرية خصما لهم ، لأن شعبا أصبح يستخدم الديتول والمعقمات ، فضلا عن الصوابين ، لم تعد فكرة القطرنة تليق به ، وأن شعبا يفتتح كل صباحاته بالنشيد الوطني ، اعتاد الوقوف ولم يعد قادرا على الركوع ، وتقبيل الركب من جديد ، لذلك قتلوه وقتلوا كل ما فيه ، وعندما لم يجدوا من يخاصمهم تشبثا بالسلم ، جلبوا له خصوما لا نهاية لهم من العالم ، فتشاركوا في قتل المزيد ، قتّلوا وقتّلوا ولم ينتهوا ..
* المقال خاص بالموقع بوست