تراهن السلطات السعودية دوماً على سلاح الثروة النفطية التي تزخر بها المملكة لردع ومجابهة أية انتقادات أو عقوبات دولية قد تطاولها بسبب الوضع المتردي لحقوق الإنسان فيها،وحملات الاعتقالات التي تستهدف نشطاء معارضين بالداخل والخارج ،كان آخرهم الصحفي “جمال خاشقجي” الذي اختفى مطلع الشهر الجاري داخل القنصلية السعودية بإسطنبول.
حيث باتت ” الثروة السعودية الهائلة” وسيلة إغراء بيد السلطات يسيل لها لُــعاب كثير من الدول والمنظمات الحقوقية الدولية للمساومة بوضع معتقلي الرأي والمعارضين السياسيين بالداخل والخارج. فسلاح الثروة وحاجة معظم الدول على الإبقاء على مصالحها الاقتصادية مع الرياض والتكسب منها كان وما زال له مفعول السحر في إجهاض أية انتقادات لوضع حقوق الإنسان بالداخل السعودية، كما تحولت” الثروة” الى تيار قمعي تصعق به السلطات كل معارضيها مواطنين ودول ومنظمات، وقد شاهدنا كيف تم تركيع دولة بحجم كندا انتقدت حملة الاعتقالات التي تطال نشطاء وناشطات سعوديات، قبل أن تتراجع أوتاوا عن انتقاداتها تحت التهديد السعودي بوجه الاقتصاد الكندي.
يوم الأحد 14أكتوبر الجاري أعلنت المملكة بوضوح عن رهانها عن سلاح النفط بوجه أية عقوبات قد تطالها من أي دولة على خلفية واقعة اختفاء الصحفي جمال خاشقجي,تلك التهديدات التي توالت تباعا بوجه الرياض ليس من خصومها فقط،بل أكثرها حِــدة أتت من حلفاءها “أمريكا وبريطانيا وفرنسا المانيا” وغيرهم،حيث قال مصدر سعودي -بحسب وكالة الانباء السعودية “واس” يوم الأحد-: (إذا تلقت المملكة أي إجراء فسوف ترد عليه بإجراء أكبر، فلاقتصاد المملكة دور مؤثر وحيوي في الاقتصاد العالمي..).
من جانبه ذهب مدير قناة العربية تركي الدخيل،المقرّب من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بعيدا بتهديداته باستخدام النفط كسلاحٍ بوجه العالم أجمع، حيث كتب مقالة له الأحد في موقع العربية نت ،جاء فيها: (سنكون أمام كارثة اقتصادية تهز العالم، فالرياض عاصمة وقوده” وقد لا تلتزم بإنتاج 7.5 ملايين برميل نفط يوميا، وإذا كان سعر 80 دولارا (للبرميل) قد أغضب الرئيس (الأميركي دونالد ترامب، فلا يستبعد أحد أن يقفز السعر إلى 100 و200 دولار وربما ضعف هذا الرقم).
أتى هذا – الرد السعودي أقصد- بعد يوم من تهديدات الرئيس الأمريكي ترامب القوية التي اعلنها للصحفيين السبت الماضي قائلاً: (حتى الآن هم (السعوديون) ينفون (تورطهم) بشدّة، هل يمكن أن يكونوا هم؟ نعم، فسيكون هناك “عقاب قاس).
وهذا يعني بالضرورة أن الثروة السعودية قد أضحت سوطا يلهب ظهر أي سعودي معارض ووسيلة مقايضة رخيصة مع أي جهة دولية تحاول التعرض لحالة حقوق الانسان السعودي.. وتحولت نعمة الثروة الى نقمة استبداد بالنسبة للمواطن السعودي التواق لنيل حقوقه وحريات العامة, وهذا ما أغرى الرياض وأوصلها الى ورطة جريمة خاشقجي، بعد أن صار بمقدورها بالآونة الأخيرة قمع أصوات دول كبرى تتعرض لوضع حقوق الانسان في المملكة وليس فقط قمع وإسكات أصوات صحفية وسياسية سعودية لا حول لها ولا طول،بما فيها رموز من الأسرة الحاكمة، ورجال دين من العيار الثقيل،فضلاً عن ابتزاز رجال أعمال كبار.
فالشعور بالزهو وبالاعتقاد ان بمقدر المال أن يشتري كل العالم بكل الأوقات – (مع إقرارنا بحقيقة أنه قد استطاع فعلاً شراء ذمم جزء كبير من أصوات العالم دولا ومنظمات وشخصيات، وبالذات العالم الذي يصفه نفسه بالعالم الحُــر)،هو أي ” الشعور بهذا الزهو” من أوصل الرياض الى هذا المآل، والى حالة العزلة السياسية التي تعاني منها مؤخراً وبالذات منذ جريمة اختفاء خاشقجي، وجعلها عُــرضة للابتزاز والطمع من الشرق والغرب، بل أشدهم وطأة وضراوة حلفاءها الغربيين, ولم تجد الرياض من يقف بمحنتها هذه غير بضعة دول عربية كاليمن والأردن ومصر، هي دول تمر بالأصل بضائقة مالية، وبحاجة ماسة للريال السعودية.
فالاقتصاد السعودي الذي اتخذت منه السلطات الحاكمة رأس حربة بمعركتها مع معارضيه هو اليوم أول ضحايا هذه السياسية الحمقاء بعد أن كان سلاحها الأمضى الى قبل أسابيع.
فبالإضافة الى الخسائر التي تعصف بأسواق المال السعودية بسبب تداعيات جريمة خاشقجي حيث هبط مؤشر البورصة السعودية 7% في تعاملات الأحد، قبل اسبوع من مؤتمر اقتصادي مهم في الرياض يطلق عليه اسم “دافوس في الصحراء، وهو المؤتمر الذي اصبح نجاحه على المحك بعد أن اعلنت عدت شركات عالمية وجهات راعية عن انسحابها منه، فمن المتوقع جداً أن يتكبد هذا الاقتصاد بالأسابيع والأشهر القادمة خسائر كبيرة ويشهد نزيفا حادا بسبب ما يحيق به من أطماع وابتزاز لا سقف لها ، تمتد من أنقرة شرقا حتى واشنطن غربا، على خليفة قضية خاشقجي،هذا غير ما ستنفقه الماكنة السياسية السعودية من أموال طائلة لشراء الذمم وإسكات الأصوات التي تتعالى اليوم بشكل محموم، فللمملكة باع طويل وخبرة لا بأس بها بمسألة كهذه ,زادتها تجربتها بحرب اليمن خبرة مِــن أين تؤكل أكتاف المنظمات الحقوقية والدول,وكيف يتم رمي التقارير الحقوقية بمكبّات القمامة، والدوس على كل القيم الانسانية على عتبات المصالح.