بطبيعتها تمثل الذكرى التاريخية تنظيم للصف الإجتماعي الثوري على مستوى الإحساس بالمسؤولية التاريخية ذاتها ، فحقيقة الصف أكثر ما تقوم على الإرادة والوعي الحقيقي بالمسؤوليات العملية الفردية ، إنها حين ذلك تصبح فرض إرادي حر في وجه أصحاب الخيالات السياسية الفقيرة والعقول المخترقة ، ومن المبادىء العامة للذاكرة الحية أن تجاربنا العظيمة المرتبطة بزمن البارحة تمثل بالنسبة لكل فردٍ فينا أهمية خاصة تندرج تحت صبغة الراهن الزمني في الحيز العام للتاريخ .
جاءت ثورة الحادي عشر من فبراير قبل تسعة أعوام لتحقيق " المستحيل الممكن " على المستوى السياسي مما عدها البعض ثورة خطيرة وراحوا يشتغلون على إطفاء شعلتها ، وفي ثنايا توهجها حاول الكثير من أعداء الثورة نحو اعادتها بصرامة إلى الزمن الصفر من بداياتها الثورية وهذا هو " الممكن المستحيل " في نظر الثوار على الأقل ، وذلك ما كان طموحًا باطنًا وذا هواجس ظلامية خطيرة ، خصوصًا وأن الثورة تحولت إلى مسؤولية شعب تاريخية وإلى مسؤولية عمل خلاص ثوري ، مرة أخرى عاد أعداء الثورة ليركبوا موج الثورة التي نوت مجملاً الخلاص من نظام الإستبداد فحاولوا عبر سياستهم إجمالاً تحقيق " الممكن من المستحيل " .
في الثورة ، يُعتبر الأمل تشطير آخر لمعنى الثورة نفسها ، فالأمل هو طرف تحرك أي ثورة ، ودرسه في الراهن مشروع ثوري بحد ذاته ، تحطيم للجمود واليأس الذي يُذوي احتمالات التغيير ، ومن المؤسف ، أن هنالك حفرة عميقة يتساقط فيها كل من لا يمشي في الطريق جيدًا ، هذه الحفرة حافرها الحقيقي اليأس ، ولقد أعادت الذكرى التاسعة للحادي عشر من فبراير في نفوسنا التواقة للحرية رقصة أمل نابضة تحت مسامات جلودنا ، إن إنسان 2020 م يسترجع إنسان 2011 م ذلك الذي كان ثائرًا والذي مايزال أيضًا ثائرًا .
قبل 2011 م ، إذا ماعدنا إلى النظر لحال الشعب في تاريخه الماضي المرهون بثلاثة عقود من حكم الإستبداد أثناء فترة أخطر رؤساء العرب " بلطجة " رأينا أكثر أن الشعب كان فيها حنجرة ثخينة لكن بلا صوت ، الصوت نفسه كان صوت الدولة فقط ، صوت فاضح ومرتفع جدًا لإصدار البيانات والخطابات الحماسية المثقوبة وللكذب على الشعب أولاً وأخيرًا وتخوين الأحرار ، وعند ظهور ثورة 11 من فبراير أصبح الشعب صوت وحنجرة والدولة ظاهرة هجاء ، حنجرة حديث عن المستقبل والأمل السياسي والإقتصادي وتحسين سبل الحياة الكريمة ، وماتحقق عبر مرحلة سأسميها ليس مرحلة " التراخي الثوري " بل مرحلة " الإنجاز الثوري " سقوطٌ للأجسام السياسية المعترضة لمضي مستقبل الثورة .
لايمكن فصل ثورة فبراير معزولة عن سياق تاريخ مجد ثورتي 26 سبتمر و14 أكتوبر ، فالأولى الأخيرة 11 فبراير جاءت إمتدادًا لخط سير تاريخ نضال هاتين الثورتين في سبيل تحقيق إرادة شعب عبر ديناميكية تاريخية متراكمة ، وقد يذهب آخرون إلى دحض قولي هذا بإقامة حاجز قطع بين فبراير وسابقاتها وفصلها بحكم زمنها وطبيعة منشأها الثوري عن خط تاريخ امتداد الثورتين السابقتين سبتمبر وأكتوبر ، وكأن هنالك تعطل سيري لحركة التاريخ وبالأخص لحركة تاريخ سير الثورات ، تعتبر معاينة الثورة بالنظر إليها في تاريخها المحدد فقط ، مشكلة واضحة تعتري عدد من محللي نظريات الثورة ومستقبل الثورات ، من يفعل ذلك ، يحتجز نظرته تجاه الثورة ولايحتجز الثورة نفسها ، فالثورات الماضوية قد تكون فكرة في جسم ثورات المستقبل أو حتى مضمونًا وأصل تطلع ووعي ثوري وتثويري ومنشأ خلاص من الإستبداد في جسم هيكلية الثورات المستقبلية ، من وجهة نظرٍ بحثية سأصدق إن قامت بعد خمسين عام ثورة في الوطن العربي أنّ هذه الثورة ماتزال عبارة عن إمتداد لثورات الربيع العربي التي حصلت في عام 2011 م ، على الأقل ربما يكون آباء جيل الربيع العربي 2011م " بفضل الله " مايزالون على قيد الحياة .
يلاحظ أنه في حال كل ذكرى تاريخية لثورة الحادي عشر من فبراير يحدث في حقل الصراع الأيديولوجي مايشبه تحديد الموقف ، من " مع " أو " ضد " الثورة ، وهذا على مستوى أفكار وأبعاد سياسية ، مرة أخرى تصبح 11 فبراير قضية مركزية على مستوى الواقع الإجتماعي التاريخي الواعي ، ومن يحدد موقفه هو من يمتلك الإرادة ولكن من يوحد صفه ويحس بالمسؤلية التاريخية هو فعلاً من يمتلك الوعي بالإرادة ، وكذلك الوعي بالمعرفة ، وفي سبيل الفصل المطلق ، يجب أن نتجرأ القول للذهاب إلى أن الحديث " مع " أو " ضد " صارت حديث عن معرفة موقع الصوت الذي يقتفي أثر النظام الإستبدادي السابق ذاته ، وهذا هو محور الصراع السياسي والفكري والثوري الممتد ، أفكار كثيرة جاءت من خارج الثورة وظيفتها الأساسية تشويه الثورة والدفع بها إلى هاوية سحيقة ، هذه الأفكار جاءت من خارج الحياة أيضًا ، باعتبار أن الثورة حياة في تلك المرحلة ، حياة حرة وكريمة ، هذه الأفكار قدر لها أن تموت خارج الحياة وخارج الثورة ، ومن يقومون بمهاجمة الثورة كُثر ، أولهم ذلك المواطن المقلوب الذي يمشي على رأسه ويديه وهو الذي يجزأ ضميره ويبيعه باليومي ويقوم بتقطيع مسؤليته إلى أوصال ، هذا الصنف عبارة عن مريض بداخله مريض آخر " يشهق كقرد " فوضوي .
تسعة أعوام مرت منذُ أحداث فبراير الحادثة التي كان لها بعدها الثوري والذي بدا أثره واضحًا على مستوى وعي الجماهير الشعبية ، وتكرس مبادىء الثورة في عمق شعورها التاريخي الجمعي ، هذه الثورة الحادثة جعلت مجموع الجماهير اليمنية في تحفزٍ دائم للمطالبة المشروعة بحقوقها في مرحلة التشكل الرفضي الذي يأبى العودة إلى حال واقع 2011 م ذي الطابع التسلطي الإستبدادي ، لقد أعطت الثورة درسٌ حقيقي في تحطيم الخوف والجمود لدى تلك الجماهير المطالبة بحقوقها ، وثمرة ذلك تبدى في موجة ربيع 2019 م الثانية .
11 فبراير ، كانت هذه الثورة ماضية في سبيل تحقيق انجاز ذي طابع ثوري بامتياز وهو مشروع اليمن الإتحادي الديمقراطي ، لولا أن المتربصين من أنصار " الثورة الطائفية " المضادة حالوا دون تحقيق ذلك ، والذي أنتج انقلابهم المشؤوم حرب مانحن بصدد تأرجح وتموج أحداثها في الراهن المأزوم هذا ، لكن تبقى العقيدة القتالية فاعلة في نفوس أبناء الشعب اليمني الذين يتصدون للإنقلاب الكهنوتي ويقومون بمواجهة أظافر التقشير الحادة للثورة العظيمة .
أخيرًا ، بعد تسعة أعوام مضت ، يتساءل البعض ، هل خفتت حماسة الجماهير وتلكأت أو إتكأت على مفترق تقلبات السياسة المترسبة ؟ ، وحال الجواب كحال السؤال نفسه ، وربما أن ظروف تقلبات الحياة السياسية وطبيعة أحداث التاريخ المواكبة هي من جعلت حماسة الثوار أقوى بوجود العامل الأصح في وجه المعادلة وهو الثائر الذي هو الآن يأخذ شوطًا جديدًا من الكفاح المسلح المقاوم ضد مليشيات الحوثي الرجعية التي تحاول أن تمسك إلا بالهواء حين مواجهة حماسة الثوار المقاومين في الجبهات ، إنه أيضًا موجب حالة اللا استقرار الطبيعية في الظرف الراهن من حال إنقلاب الثورة المضادة ، والذي جعل الأمل أقوى بالتمسك بالثورة الذي بدا يأخد طابعه المصيري أكثر من ذي قبل.