حِين أستمع لهذا الفنان ، أيوب طارش ، أكاد لا أحس سوى بالإنتماء إلى عالم الفن ، أي الإنتماء إلى سر الوجود العظيم ، إنّ أغانيه المُعتقة نبضٌ ماتع مِلىء الروح والقلب أيضًا ، فهذا الفنان وعلى مدى إشتغاله بالفن لم يصب ذائقتنا الفنية بشرخٍ ، كما أنه لم يقم بتمريغ عواطفنا أو العبث بِها على النحو الذي يقوم به فنانِي اليوم ، أقصد الفنانيين الهواة .
لقد جسد أيوب فكرة الفن ، وتماهى معها كثيرًا ، لذا لانجد أكثر من هذا الفنان من وهب للفن كل طاقته ، بحماسة زائدة أو بلا حماسة ، المهم ، شارف أيوب على الإستحواذ تاريخيًا على مكانته الرفيعة ، نستطيع أن نقول معها أن ظهور فنان مثله لايكون حتى بعد 1000 سنة ، الأمر ليس صعبًا جدًا ، لكنه يبدو كذلك ، وهذه حقيقة مخيفة ولذيذة إلى حدٍ ما .
ليست الأغاني سلعة ، وليست شهرة ، ليست سوى دليل على إثراء الوجود وصنع الحياة ، وعلى العكس اليوم ، يفهم فنانينا المستهترين أو بالأصح فنانينا " المرتزقة " بأن الفن أداة للتكسب ، وكحاجة ملحة للتسلية فقط ، وهذه كارثة ، بحيث لم يعد معها الفن محترمًا ، أو لائقًا لمن يجرؤ على التحمس به ، أقصد لمن يريد أن يحارب به الملل ، لقد أصبحت بعض الأغاني ذاتها ملل ، ملل لايطاق ، لذا لاتروق لي البتة أغاني الجيل المندفع هذا ، أغانٍ تقوم بنفخ رأسي كبالونة ، وتجعلني في غثيان مُر ، وهكذا هي مع الآخرين أيضًا ، أغانٍ هابطة ورخيصة جدًا ، لاتحترم عواطف البشر ، ولاتحترم عقولهم البتة ، لاتحترم المعاناة ولا الأرض أيضًا ، لاتحترم الحب إذا غنت للحب ، وأخيرًا لاتحترم هذا الوطن إذا تغنت به ، لا أمل منهم ! ، فهم بلا ضمير ، لقد أصبحت حناجرهم مسدودة بطينة العدم ، وبفراغ التسلي فقط .
الفنان الذي تستمع له ، ومع ذلك تحس بأنه لايهدأ ، يظل يتنطط كالخوارق من " هيجة لهجية " كما يقول إنسان اليمن القروي ، هذا النوع من الفنانيين أتركه ، لاتستمع له ، لست بحاجة لسماعه أساسًا ، أما الفنان الذي تستمع له وتحس كأنه جلس إلى جانبك للتو فهذا جيد مع أنه يتسلى ، أيضًا لاتستمع له كثيرًا ، لكن الفنان الذي تستمع له وتحس بأنه تماهى مع قلبك وعقلك فهذا هو الفنان الحقيقي ، الفنان الذي فمه أعطاك فمًا آخر للغناء معه ، وجعل حنجرتك مسموعة ، أو غير مشروخة الصوت ، وأعطى لسرك دمعته التائهة ولعقلك فكرة مفقودة ،الفنان الذي تستمع له ولاتكون بحاجة لمعاتبته ، أي الذي لا يتعبك ، ولاتحس بأنه يشتمك أو يغلط بحقك ، فهذا هو الفنان الحقيقي، إستمع له ودع حنجرته توقظ كل تفاصيلك الناعسة .
إن أيوب لايبخل ، وهذا سر تميزه ، يعطي بشكل فظيع جدًا ، عندما يغني أيوب ، يترك وردة ساخنة في القلب ، تحديدًا حينما يغني للحب ، أنا الشاب الرومانسي الذي أعشق بطهارة ، عندما تقع مشاعري على نبض هذه الفنتازية اللذيذة ، ألمح رقصة وسط قلبي ، هذه الرقصة ليست كاذبة ، وليست فَرحة ، بل منضبطة ، فرحة تتسع للحب أكثر ، فأيوب ، وبلا منازع ، الأقوى تأثيرًا في الفن اليمني ، إنه يملك وترًا مُعذب ، نعم ، مُعذبٌ جدًا ، وترٌ يقوم بدغدغة المشاعر ، ولكن أليست الدغدغة فن تعذيب كما يقول علماء النفس ! ، إن التهييج نفسه عذاب ، ولكنه عذاب لذيذ ، عذاب إيقاظ ، في الفن أسلوب تعذيب ، وهذا هو السر الغير فاضح للفن ، نعم عذاب ولكنه عذاب ساحر ، وأيوب الكائن اللذيذ يجيد تعذيبنا بوتره ، بدندنة شيقة ، بأغانيه الوطنية، ، وبأغاني الحب ، يعذبنا بعشقه الماتع للأرض ، ونحن أيضًا نحب العذاب الذي يأتي من مثل هكذا فنان صادق ، فنان لاتُكذبه أحاسيسه ، نحب العذاب الفني المائز حتى إن تفتتنا وتحولنا إلى مسحوق رائج أو " بودرة " خالصة في سبيل ذلك ، إن هذا الفنان لايبخل بشيء ، فقد غنى للجميع ، وقوة تواجده فينا أنه وصل إلى ذواتنا العميقة عبر وقفاته الإيمانية .
شخصيًا ، لا أخفي عليكم ، كنتُ عاشقًا من الدرجة الأولى ، ولم أكن كاذبًا من الدرجة نفسها ، والذي لا يكذب حين يحب بعشق يفقد حبيبته ، نعم ، و هذا ماحدث ، فالحب أحيانًا ليس سوى زوبعة ، لا عاطفة ولا وعي حتى ، وكذلك ليس إرتباط روحي ، إنه كل ذلك ، حين تتمادى الحبيبات بقتل الروح ، وحتى هذه النقطة الأخيرة ، أنا مهزوم في الحب ، لقد فقدت حبيبتي وتزوجت بأغاني أيوب ، وها أنا حتى الآن لا أقوى بغيرها ، حين تهيج روحي بجاذبية عالية ، وحين أميل لسرقة الضوء ، حين أتنفس كل الحب أيضًا ، أهرع لفنتازية أيوب ، أما عن الفن الذي لايملك هذه الخصائص ، ليس فنًا ، أو فنًا موضوعًا وبلا روح .
أمام أيوب ، نحن لانتبع مزاج أيوب فقط ، لأن هذا الفنان العميق لم يكن يغني ليتسلى ، بل كان يغني ليداعبنا على نحو ماتع للغاية ، نحن نتبع مزاجاتنا الوطنية أيضًا ، وعلى العكس من تلك الطواقم الفنية الأخرى ، التي تخترق الجمال بفردانية مخجلة، إن غنائه العذب مُجنح ، حين أريد أسكات هذا الفنان أسكته في قلبي ، فيحولني إلى كائنًا خرافيًا ، بقلب له جناحان .
إلى حدٍ بغيض ، أكره كل تلك الأغاني الشبيهة بقشرة البرتقالة ، تعطي الرائحة ، نعم ، لكنها لاتطعي لب الثمرة ، ، ولاتجعلك تتذوق أيضًا ، إنها أغانٍ مخادعة جدًا .
أخيرًا ، إلى مدىً بعيد ، لا أعرف لماذا لايكون بمقدوري الغناء ، والمشكلة ليست صوتي ، أعرف ذلك ، لكني أعرف أكثر أنه يجب علي أن أسمع ، ليس تعويضًا فقط ، أسمع كأنني أغني ، طبعًا يحدث هذا ، أن أسمع للفنان ، فأغني أنا بقلبي ويختارني هو بحنجرته ، بل يحدث للفنان لوقتٍ محدود أن يسلب مني حريتي ، نعم ، حينما يجعلني على الدوام أسمع له ، أسمعه فقط ، وأكره كل الفنانيين الآخرين ، وهذا منتهى الإعجاب الذي أرفضه بكل خجل ، فالذي قد نجده في فنان ، ربما ، وأزعم أيضًا ، أننا قد نجده في فنانيين آخرين ، والذي قد لانجده هنا وهنا قد ننتظر أحدًا ما يأتي به ، أي ننتظر المستقبل ، وهذه هي طاقة الحماسة الحُرة والحقيقية لمواجهة جمود الفن ذاته ، وذلك مُهم ، مُهم أن نتحمس لنقتل اليأس بالدندنة .