في مراحل إقتتالية من تاريخ اليمن المعاصر ، لاتكاد تمر مرحلة مهمة وفاصلة منه ، إلا وصبغت اليمن منه بصبغة هي أوصف ماتكون متفننة بالجريمة ، إن الإغتيالات هي روح هذه الصبغة الدموية اللزجة التي غذتها الصراعات السياسية أكثر ، وحشرتها في بوتقة سياسية واحدة ، ووجهتها فيما بينها كثارات لأجل مطامح وسياسات تنزع نحو السيطرة ، وكأن السياسة هنا وطموحات السياسيين لن تكون إلا باغتيال الرموز السياسية الأخرى المختلفة والمنافسة ، مما جعل هذا السلوك الإرهابي هذه البلاد في حالة فوضى وفي حالة إفلاس عميق حتى من كل شيء ، إفلاس في خزينة الحياة الإنسانية والدينية وإفلاس فكري نكرة يمجد العنف والإرهاب ، وجعلها أيضًا في نفاد شبه كلي في مخزونها الوطني من الرجالات من مختلف توجهاتهم وفئاتهم وتقسيماتهم من قمة الهرم الإجتماعي حتى أدناه ، بالإضافة إلى جعلها في حالة فوضى مستدامة وإقتتال بيني يأخذ طابعه السياسي تارة والحزبي تارة ثانية والديني تارة أخرى ، وهذا كله كانت له نتائج سلبية أدت مباشرة إلى تعطيل عملية بناء الدولة ، بل وأرست بكل تفشخ حكم الإستبداد السلطوي .
هناك نوعان من القتل ، الأول قتلٌ غير ممنهج ، وهو قتل شخصي جنائي ، يتمثل بالقتل العلني الفردي الذي لايتعلق سوى بأسباب ذاتية في نفسية القاتل والمقتول معًا ، والآخر قتل ممنهج ، الذي يتخفى صاحبه والذي لايأتي بدوافع فردية ينزع إليها القاتل لأسباب وسلوكيات كالثأر القبلي أو القتل لأجل أرضية أو نزاع أو لأجل عرضه أو كسلوك إجرامي ذاتي يحن إلى سفك الدم وغير مدفوع من أي طرف ، وإنما يأتي وينزع لدوافع سياسية وتحريضية ولأسباب إرهابية يشجعها عقل الفكر الإرهابي ويدعمها ببعض التبريرات الخاطئة ، والأسوأ أنه يأتي نتيجة مخاوف مستقبلية ، نعم ، هنا تتردى الدولة وتضيع ملامحها في وجوه القتلة ، ولايصبح إعلان الحرب المفتوحة الناقعة صعبًا تدفعها تلك الحرب الأولى المسعورة والمتخفية بصبغة وشُرخ الإغتيالات .
يعاني حزب الإصلاح السياسي ، وهذا ليس من اليوم ، ومنذُ تأسيسه ، من حالة تهديد ممنهجة ضد كيانه الوجودي كحزب كبير له محبيه وله تأثيره في الساحتين السياسية والدينية وفي عموم الحياة المختلفة ، تذهب إلى تنفيذ هذه التهديدات قوى الشر المختلفة التي تنتهج منهج الوحوش الضارية في فتكها ومحاولتها تخريب الحياة " وتخريب السياسة " كما يذهب " ياسين سعيد نعمان " والدفع بالوطن هذا إلى هاوية سحيقة عبر إلغاء الآخر المختلف ونفيه على نحو ساحق .
أذكر أنني مرة كتبت جملة شعرية بمناسبة إغتيال أحد القيادات العكسرية في تعز " عدنان الحمادي " ، هذه الجملة الشعرية كانت أكثر ماتخاف على مستقبل هذي البلاد من هذه العصابة المنظمة التي بلا ضمير ، كل يوم تُحيل حياتنا إلى جحيم لايطاق وتدفع بنا إلى مزبلة التاريخ ككل ، جماعات شهيرة وأفراد منمقون . بوصفنا بلد حكمة ، لايَتوقع أن يحصل فيه مثلما يحصل الآن من جرائم ، فعلاً هذه الجملة الشعرية صادقة أكثر حتى من هذا المقال الذي أكتبه الآن ، " المسدسات كاتمة الصوت تشتهي الغد أكثر منا " .
يبدو أن الإغتيالات التي تطال حزب الإصلاح وتظهر من فترة لأخرى غير مكتفية بما قد فعلته تمثل محاولة تصفية وجودية لهذا الحزب وتفكيكه عبر ضرب هرميته بإستهداف قياداته الحكيمة التي تتمتع بروح عالية الإطمئنان السياسي من رجال دين وسياسيين ومثقفيين وناشطين وصحافيين كانت لهم مواقف وطنية مشرفة ، على الأقل أرادت أن لاتنهج نهج التفلت السياسي الأكثر حُجة ودفع البلاد إلى هاوية سحيقة عبر مهاتراته التي تنجزها الأحزاب الأخرى وهي تخوض جميعًا معركة مصيرية ضد مليشيا الحوثي والقوى الخارجية التي عملت على تغذية هذا الصراع أكثر ونفخ ناره حتى لايجسو ولامرة بين قوى اليمن المختلفة ككل في مراحل التاريخ الإنعطافية.
إن استراتيجية خطيرة جدًا خارج جسم الشرعية تعمل ومنذُ بداية هذه الحرب على تكريس أفكار ثارات مستقبلية لدى القوى المواجهة للحوثي فيما بينها ، وتفككها ، وفتح الباب الرئيسي لدخول هذه الطامة ، لن يكون سهلاً إلا بسياسةٍ إلتوائيه ، والتي وقعت منذُ البدء على إختيار جريمة التصفية الجسدية والسياسية بدائيًا كحل لايعمل على فتح جبهة مباشرة ورأسية مع الآخر وإنما بطريقة الإستنزاف والقتل بدبلوماسية ، إن كان للدبلوماسية من قتل حاذق ! ، والذهاب أكثر إلى تفعيل مبدأ هذه التصفية في النفوس ، وجدّ أخيرًا كيف يستخدم الحرب النفسية والإعلامية ضد الآخر عبر التخويف منه والتشكيك بوطنيته ووصمه بصفات عديدة كالإرهاب والعمالة للخارج واللعب بمصير البلاد والمقامرة بمستقبلها .
لقد عانى حزب الإصلاح من تهديد وتصفية وجودية له ولجذره التاريخي في الأصل اليمني ، حتى من قوى خارجية ، وهذا المضحك جدًا ، إلا أن هذا الحزب الثوري اليمني العظيم لم يهن كما يظن البعض أو يستسلم أو حتى يرخو بمواقفه ويبيع كما فعلت بعض الأحزاب أو يلتوي بخفة ويتجمل بمساحيق تجميل مختلفة ومستوردة ، ولم يطيش سياسيًا ، بل على العكس بقي روحًا حية بداخل جسد البلد كلها شمالاً وجنوبًا ، ومحافظًا على موقفه الإستثنائي من الحرب في سبيل معركة المصير .
إن مردود الجرائم بالنسبة على المجتمع كبيرة جدًا وذات حمولات سلبية قد تُسبب ردات فعل لايستهان بها ، لأن فعل الإغتيال ذاته وطريقته الهمجية في تصفية كائن ما وقتله عبر إختراق جسده بطلقات رصاص آتية خفية من وراء ظهره طريقة همجية أكثر ، قد تجعل المجتمع بأكمله يتماسك ويتعاطف إنسانيًا مع الضحية ، بالإضافة إلى أن إغتيال الرجل الوطني والقائد العسكري والسياسي والمثقف ، وجميعهم من النخب حتى المجتمعية والحزبية ممن يحملون أوزان ثقيلة يؤدي إلى توسيع دائرة التضامن ويأصلها أكثر كلما مرت الذكرى وسقطت دمعة المجتمع المتضامن إنسانيًا مع روح الضحية ، ويجعل شيئًا من فقدان الأرواح المؤثرة والقائدة يؤدي إلى إنتكاسة في قيمة الوعي لدى المجتع نفسه .
الدموع النظيفة ، والوقحة الدموية جدًا ، قد تختلط ، ويحدث للأخيرة أن تتخفى وسط سير الأقدام وفي تشنجات وتفاصيل ألوان الحزن التي تظهر على عيون البشر وهم يرفعون جنازة ميتة وهامدة ومغدورًا بها حتى اللحظة على النعش ، وقاتل هذه الجثة يتحمس كتمساح لذرف مزيدًا من الدموع المالحة وحمل النعش على كتفه إلى الأمام ، ولكن أين يحدث هذا ؟ ، بلا شك ، يحدث هناك ، في البلاد التي قُتلت فيها حتى التفاصيل الجميلة ، في البلاد التي خَطفت الرصاصة فيها قلب الشهيد حسن اليعري ، وأيضًا قلب وعقل عمر دوكم الرجل التنويري ، في البلاد التي توفي فيها رفيق الأكحلي وعبدالرقيب قزيع وخالد غيمان والصحفي زكي السقلدي ، بالإضافة إلى سمحان الراوي وأخيرًا عدنان الحمادي ، والتاريخ قديم جديد لدى قائمة الإغتيالات بدًا بالحمدي وحتى الحمادي مرورًا بالزبيري والعبسي ومحمد عبدالولي والسقاف والمتوكل جارالله عمر ووووو ...الخ ، نحن شعب طيب جدًا نموت حتى من قلة الحرب أيضًا .
أخيرًا ، إن أي سلوك " سيكوباتي " شاذ متطرف ينزع إلى القتل والمعاداة والموت لن ينتصر ، بل إن الرصاصة الفضية التي لايحاسب مُطلقيها قانونيًا ، تبقى أكثر ضعفًا ، عندما لاينصف القتيل من القاتل سوى قشعريرة جلده التي تعبر حتى عظم ومسامات جلد القاتل ، ويبقى القاتل فارغًا من كل المعاني الدينية والإنسانية النظيفة ، يبقى فارغًا جدًا إلا من إجرامه وأفكاره المتطرفة التي تفتك بالآخر على نحوٍ جنوني ، معها ، موت شخص ، يُسقط دمعة المجتمع بأكمله .