صحافة وإعدام
الثلاثاء, 21 أبريل, 2020 - 02:06 مساءً

إن الحرية ليست مكانا، وإلا كنا قد سلمنا مسبقًا أن جميع الأنفس المناضلة والحُرة التي تقع الآن في السجون قد فقدت حريتها ، بإعتبار أنها صارت خارج الأمكنة التي كانت تمنحها الحرية وتدغدغ كل أحلامها على نحو مثير ، كما أنها ليست في حيز ومسافة إلا في النفس ،النفس الحُرة طبعًا ، النفس التي تؤمن بمبادئ الحرية وترفض على الدوام حياة العبودية وبواعث الذل ، نعم ترفضها وتكرهها على نحو بطولي مشرف ودائم ، وكما أن الشخص الحُر يختار الحرية بإعتبار مرة أن الحرية إختيار ، فإنه قد يتخلى عنها ولو حتى تدريجيًا ، ليغدو كائنًا لاحرية في قلبه ، مع ذلك كله ، الأمل كل الأمل في أولئك الذين ليست الحرية فيهم سوى مصدر فعل وقول وتشبث بالحقيقة والوطن ، حتى وإن ظلت أجسادهم تقف بين حيطان السجون مرورًا وذهابًا وتوقفًا ، وتتوزع المسافة فيهم بين كل ذلك وفي كل ذلك نبض وحلم وخوف وعذاب ، فإن الصوت الحر الصاعد يحطم الحنجرة المسدودة بكل حماسة . حتى وإن كان في أقصى السجون ، وهكذا ،  إذ إن الأحرار ينتجون أنفسهم في زمن العبودية ككائنات نوعية على مسار التاريخ . 
 
قبل أربع سنوات تقريبًا تم إختطاف عشرة صحافيين من منازلهم ، بكل تصلف وعنفوان ، وإلى الآن هم في هذه السجون يعيشون بلا رحمة ، تحت التعذيب ، وتحت ظلم الإفتراءات التي تم فبركتها بسهولة جدًا ، لاسبيل من هذه الإفتراءات سوى مواصلة الحرب التي أعلنها سيدهم ضد الصحافيين بل وإعلاء كل أذية تطالهم  ، وأخيرًا تمادت هذه المليشيا التي أنشأت لها محاكم قضاء في صنعاء " المفقودة ! " في إصدار حكم قضائي يذهب إلى إعدام أربعة صحافيين من بين العشرة ، ولا الستة الآخرون ولا الأربعة هم في حياة إن تغاضت عن إعدامهم مليشا الحوثي ، فالجميع الآن معذبون وفي فرجة الموت .
 
في الآونة الأخيرة تعالت المطالب والأصوات منددة بتجاهل المبعوث الأممي لدى اليمن ، في جلسته الأخيرة في مجلس الأمن ، قرار إعدام أربعة صحافيين ، مع أن المطالب كانت قد تصاعدت أكثر بإخراج الصحافيين والسياسيين البارزين المختطفين منذُ خمس سنوات كالسياسي البارز محمد قحطان مثلاً ، وذلك جراء تفشي فيروس كورونا ، إن إثبات أن الحرية صحة ، وكذلك إثبات أن الصحة حرية ، إثر تفشي هذا المرض أمر بات أكثر برهنةً ، ومن في السجون ليسوا تمامًا كمن هم خارجها ، أي ليسوا أصحاء تمامًا ، فعلاً ،  الحرية صحة ، وكل مطالبنا الآن صحية أكثر بإخراج هؤلاء الصحافيين الذين لاتهمة لهم سوى أنهم يستحقون الحياة ، وإنهم كانوا يؤدون واجبهم الوطني على أتم وجه ،  في ظل وجود عدو مندفع لايتمالك نفسه ، عدو لايمنح الحرية إلا لمن يقتل كل علامات الإستفهام التي تثير السؤالات المهمة ويذبح " لا " في حنجرته بخرافية مستعجلة ، عدو يتفنن بتوزيع التهم .
 
تستخدم مليشيا الحوثي القضاء كأداة فاعلة لتبرير الجريمة ، إنها أداة مُبررة وسهلة سبق أن عبروا من خلالها إلى منازل وفلل المعارضين والقادة في صنعاء الذي قام الأخيرون  بتركها حين فروا هربًا من بطش هذه المليشيا ، منضمين إلى صفوف الشرعية في معركة المصير الواحد والوطن الواحد ، عبر بطانة القضاء تمت السرقة والجريمة ، وغدى السارق واضحًا جدًا ، أو فلنقل مساعد السارق ، أصبح أكثر نصاعة ووضوحًا ، إنه سارقٌ مُعمم من أعلى وصاحب بنطال ثخين جدًا من أسفل ، بالإضافة إلى أن هذه المليشيا تحلم بأن تبرز وتغرس في وسط العقول اليمنية وغير اليمنية خصوصًا في الراهن الحروبي هذا بأنها أصبحت دولة مكتملة وتمتلك كل أدوات وأجهزة الدولة الفاعلة ، وهكذا ، إن الزنزانة المُقفلة الآن على الصحافيين مصنوعة من حديد القضاء وظلام الحاضر الحوثي وقهر الواقع .
 
بالإضافة إلى أننا أمام مشهد متكرر من محاكمة الصحافيين ،وكأن مايراد أيضًا هو وضع الجميع أمام مشهدٍ يسود فيه جو التحذير وضرب أكثر من ألف عصفور بحجرٍ واحد ، بمشهدٍ مقرفٍ واحد ، وأخاف أن أقول بمشهدٍ دموي واحد . وما أسوأ أن يفرض الخوف نفسه في نفوس البشر ، أقصد أولئك الذين يقطنون في مناطق سيطرة هذه المليشيا ، فيصبحون ضحايا القبضة السلطوية مستسلمين لها تدريجيًا حتى كامل إرادتهم ، فيأتي معها الشخص الذي قد نما بالتدرج  لينفي حقه في العيش والحرية وإبداء الرأي والكلام بلا توجس أو زيغ .
 
هناك سِجنان ، سجنٌ نبتكره لأنفسنا ، وسجن آخر يبتكره العدو لنا ، أما الأول لأننا لاندرك قيمة ذواتنا ولاندرك أصلاً لماذا وجدنا ولماذا نعيش ، وأما الثاني لأننا لسنا طيبين مع أنفسنا ، وكذلك لأننا نحلم بالعبودية وعدم التحرر ، بل لأننا مللنا من المشي بحرية والتكلم بحرية ونحتاج إلى قيود ، وهذا هو المؤسف فعلاً ! .
 
إلى من هم خارج السجن من الصحافيين ، أفعلوا هذا لأكثر من مرة ، كما لاتحبون حتى ، توقعوا أنكم اليوم قد وقعتم في السجن ، وأن عذاب السجان أصبح يشوي أجسادكم ، ويحيل حياتكم إلى جحيم ، والسبب في كل ذلك ، أنكم حاولتم في لحظة ما أن تكونوا كل الأقلام والأفواه دفاعًا عن هذا الوطن الحبيب ، ثم مرة أخرى توقعوا أن الأقلام التي بعدكم ، أي التي تنبض خارج السجن ( سجن الآخرين لنا )  الأقلام المسموعة القادرة على الكتابة ، أصبحت تستحي أو تخاف أن تكتب عنكم شيئًا ما ، لا أمل من هؤلاء الصحافيين المرتزقة ! ، لقد تجمد الحبر الرخيص في أقلامهم ، وأصبحت لهم أفواه مغلفة بلواصق جبانة .
 
والآن هل أتقدم إلى كليه الصحافة والإعلام أو عفوًا كلية الصحافة والإعدام ، أقصد هذه السنة الآتية عند التسجيل الجامعي ، أم ماذا ؟ ، أختصر المشنقة بخطوة حياتية أخرى ، وأموت سامقًا بنشيد الحرية ، نشيد الحرية ، نشيد الحرية ، يحملني الآن على كتفه ونطير . 
 
 

التعليقات