كنت في سن الثامنة من العمر تقريباً، وفي الصف الأول الإبتدائي، وكان هناك رجل في السبعينيات من العمر ممن أسلم من بقايا اليهود في القرية المجاورة لقريتنا تسمى قرية "الضماجي"، بينما كان أهله وجيرانه قد رحلوا في بساط الريح إلى فلسطين المحتلة في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات.
كانت كثير من قرى وعزل الحجرية مختلطة بعضها الأغلب مسلمون والبعض الآخر وهم القلة "يهودا" قبل أن تأتيهم أشبه ما يكون بالصيحة، أو ما يسمونه بالنداء العام، ليرحل الجميع دون استثناء إلى فلسطين واستيطانها.
يحكي لي والدي -يحفظه الله- أن اليهود كانوا ينذرونهم أنه سيأتي يوم الميعاد؛ يوم يقام لهم فيه دولة وأنهم سيذهبون إلى تلك الدولة ويكونوا يمرون عليهم من فوقهم بالطائرات!
أسلم "مناحيم" وصار اسمه "عبدالله قايد"، وقايد لم يكن أبوه حقيقة وإنما نسبة إلى الشيخ قايد بن محمد العيسائي شيخ سامع -رحمه الله – والذي أسلم على يديه حباً بالبقاء رافضاً مغادرة البلاد إلى فلسطين، وكان إسلامه مخرجاً له من الهجرة.
كان هذا الرجل يتردد على والدي كثيراً، وكان يجدني في أوقات الدراسة والمذاكرة ولم يكن يعرف الأبجدية العربية تقريباً، وقام بتعليمي الخط العبري (اليهودي) الذي فهمت منه بعض الأحرف في بعض الجلسات التي ليتها طالت كثيراً.
أصبح بعدها عبدالله قايد كثير الترحال بين القرى ولم يستقر في مكان، وكنت في شغف من تعلم ذلك الخط أطلب المزيد بيد أن الحظ لم يسعفني كثيراً بسبب ترحاله ثم وفاته لاحقاً عام 1990 تقريبا - رحمه الله.
لم تزل تلك الأحرف الأولى التي سطرها في مخيلتي سبباً موجهاً لدراستي التاريخية وشغفاً بخطوط اللغات السامية القديمة وعلى الأخص خط المسند، لتكون الصدمة والصدفة معاً بعد عامين تماماً من ذلك التاريخ.
ها أنذا في منتصف الصف الثالث الإبتدائي، في مدرسة تقع قرب حصن قديم من حصون اليمن قبل الميلاد اسمه "قرن نعيمة"..مَن نعيمة تلك؟ لا نعرف عنها شيئاً إلا بعد خمس عشرة سنة لتعرف عن نفسها أنها نعيمة العريقية صاحبة نقش سامع المسندي في أسفل جبل سامع.
في ذلك الحصن، وفي رحلة صغيرة وقت الراحة المدرسية بين الحصص ذهبنا إليه بينما كان قائماً بشموخه لما يُهَدَّم بعد، لنقود كطلاب مشاغبين أول رحلة لتخريبه.
بينما كان زميل لي يصرخ مما وجد ليفلتنا إليه، كان حجر أبيض من الرخام (المرمر) يتوسط عتبة باب الحصن من الداخل وعليه خطوط غريبة ورسومات وغصن عنب، قال بعض أصدقائنا من الذين كانوا مبرزين في الدراسة إنها خارطة.
كانت الخرايط المرسومة والمصورة هي منتهى علمنا حينها، بينما أسعفتني الذاكرة بالعودة إلى تلك اللحظة التي كان فيها عبدالله قايد - رحمه الله- ينقش خطوطه بشكل متأنٍ وهادئ وهو يعلمني الحروف العبرية، فقلت لزملائي: هذا خط يهودي!
كانت مناهجنا الدراسية رصينة لا تشبه مناهج اليوم الضعيفة والمتفلتة، وكانت هادفة جداً؛ ففي الصف الخامس الإبتدائي كانوا يعلمونا ما هو خط المسند، وما هي النقوش، وما هي الدول اليمنية التي حكمت اليمن، ولا أزال أتذكر من كتاب التاريخ رسمه المسندي، وبيتاً شهيراً من الشعر ينسب لأسعد الكامل (أب كرب أسعد)، يقول البيت الشعري:
وفي البقعة الخضراء من أرض يحصب ثمانون سداً تقذف الماء سائلا
هذا البيت هو كل ما تبقى لي من أثر تلك المرحلة التي كانت من أفضل مراحل العمر والدراسة والتعليم لجيل الثمانينيات.
قمنا وبعض الزملاء باقتلاع ذلك الحجر من مكانه ورأينا أن نعود به إلى المدرسة ومنحه لمدير المدرسة لكي يسلمه للمتحف في مدينة تعز، لكننا سرنا به قليلاً وكان ثقيلاً علينا فاضطررنا لكسره نصفين؛ نصف رمينا به في حافة الجبل، ونصف أوصلناه للمدير والذي هو بدوره لم يدرك قيمة الحجر فما كان منه إلا أن ألقى به من سيارته في وادي "سربيت"، ولهذا قصة أخرى سأوردها لاحقاً.
بقيت هذه الصورة في ذهني لم تغب حتى بدأت مرحلة الدراسة الجامعية، وكانت هناك مادة مصاحبة لمواد دراستنا (مقرر) هي لغة النقوش اليمنية التي استهوتني أكثر من التخصص العام، وبدأت السير فيها بنهم شديد، وهنا فقط تذكرت تلك المحطة التاريخية (التخريبية) وأردت أن أصلح ما خربناه في طفولتنا فكانت أولى محطاتي للبحث التاريخي مجدداً من تلة ذلك الحصن الذي صرت أشعر به كتوأم روحي فبيننا من العلاقة ما لا يمكن أن تنفصم عراها أبداً.
حينما أدركت القيمة العلمية والتاريخية لأي نقش من النقوش اليمنية صار عندي اكتشاف إحداها أغلى وأثمن وأجل من كنوز الدنيا كلها؛ لأنه سيكون مدخلاً لكثير من المعلومات التاريخية والاجتماعية والسياسية للمكان الذي يكون فيه.
هنا تذكرت أن هذا المكان قديم قدم التاريخ اليمني ليفتح في ذهني صفحات من التساؤلات والبحث عن تاريخ هذه المنطقية المنسية بين شقوق ووهاد أماكنه.
بعد ثلاثة عشر عاماً عدت باحثاً عن ذلك الجزء من النقش الذي رميناه باذلاً في سبيل إيجاده لأصحاب المكان أموالاً طائلة لمن سيجده.