في مطلع عام 2008 دخل الى قاعة المحاضرة في كلية التربية المخصصة لطلاب الكيمياء وعلوم الحياة اكاديمي يمني متوسط القامة بخطوات متزنة وملامح بالغة الهدوء وقف في منصة القاعة التي كانت تسع لنحو 300 طالب عرف بنفسه بطريقة لازلت اتذكرها .. مما علق بذاكرتي انا الدكتور محمد أحسن الحيفي أاكاديمي يمني خريج الهند من محافظة صنعاء مديرية ارحب سأدرسكم مقرر بيولوجيا أي علم الحياة .
بعدها بسنوات وفي ثورة 11 فبراير ... 2011... جاء الى خيمة حركة 15 يناير احد زملاء الدراسة يدعوني يقول لي هناك شخص في انتظارك بجوار المنصة وحينما اقتربت من ذلك الشخص وجدته الدكتور محمد تصافحنا بحرارة وذكرته بالعبارة التي كنا نتفق حولها ان اليمن لن تنهض الا من خلال العلم والحرية والهوية اليمنية وقلت له وصولك الى ساحة الثورة لاسناد طلابك احد المؤشرات ان اليمن في المستقبل ستكون بخير مهما كانت العثرات.
ثم تحدثت بلا حواجز كيف انه من الوهلة الأولى اتضح للطلبة الذين لديهم المام بقراءة الشخصية وثقافة علمية اننا امام عالم وللانصاف ثمة اكاديميين ينطبق عليهم مصطلح علماء بحق وحقيقة ولكن لحوح البيت حامض على قول المثل الشعبي.
كانت القاعة في حالة صمت من هذا الاكاديمي اليمني الذي يمتلك أسلوب تدريس بالغ التأثير ذو ابتسامة خفيفة ومعلومات علمية تتدفق بسلاسة الى ذهنية الذين اعتادوا على التلقين والصوت العالي في المحاضرات وخصوصاً ان قسم الاحياء كان قسم ثانوي في القسم الأساسي الا ان اثنين من اهم علماء اليمن في الاحياء كانوا في هذا القسم وهما الدكتور محمد الحيفي رحمة الله عليه والدكتور اشرف النهاري .. حفظه الله ورعاه تخصص في علم الوراثة وادين له بفكرة ان الانسان بناء اجتماعي وليس بناء جيني وان الجينات لاتلعب أي دور في تحديد قدرات ومهارات الفرد ولاتوجد جينات غبية وجينات ذكية ..
مر الزمن وبات الدكتور محمد الحيفي في الكلية رمز علمي وملهم اخلاقي كبير وقدوة وطنية فيه من العلم والتواضع الكثير .. ننتظر محاضراته بشغف كبير واللقاءات الجانبية ننتظرها أيضا.
لم يقتصر هذا العالم على الدور الاكاديمي فقط بل ذهب الى التعمق في البيئة اليمنية تاريخيا على وجه التحديد ومن خلال بحثه المميز عن آثار الديناصورات في مديرية ارحب بصنعاء نال جائزة رئيس الجمهورية تقريبا في عام 2007 اذا لم تخن ذاكرتي.
ثم تدرج في المواقع العلمية والأكاديمية وعميد كلية التربية أرحب _ جامعة صنعاء سابقا.. الى مدير عام المختبرات والتعرض الإشعاعي باللجنة الوطنية للطاقة الذرية.. بالإضافة الى كونه باحث اكاديمي وعالمي بيولوجي متمكن ولديه من الخبرة البيئة والعلم البيولوجي ما يضعه ضمن العباقرة المغمورين.
لم يكن أحد يعرف أن ثمة عبقري مغمور في اليمن اسمه محمد الحيفي فاليمن تفتقر للاعلام العلمي والصحافة العلمية والدوريات العلمية أيضاً ولم تكن السياسات العلمية في اليمن متصالحة مع العلماء لأسباب سياسية وثقافية ..
اليوم قرأت خبر وفاته ونعيه ودار في عقلي شريط الذكريات وشريط الذاكرة ايضاً وتذكرت ان اليمن فقدت واحد من العباقرة المغمورين والعلماء الكبار ولازلت اتقصي وابحث عن سبب الوفاة التي قيل لي انها مفاجئة واخبار انها بسبب فيروس كورونا الا اني الى اللحظة لازلت ابحث واتقصي عن سبب الوفاة.
أن حزين واهيم في شوارع المدينة كما لو اني فقدت اقرب اقاربي فمواقف عديدة وقف فيها الى جانبنا من بينهم حينما رفضت عمادة الكلية ان تحضر حفل تخرج دفعتنا كوننا كنا دفعة اغلبها معارضة للنظام بوعي سياسي وفكري كبير ومعظم قيادة الحركة الطلابية في الكلية من هذه الدفعة ذهبنا الى منزله ليلا واخبرناه بغصة في دواخلنا عن تصرف العمادة معنا على هذا النحو فقال لنا لاتقلقوا انا الى جانبكم لا افرق بين طلبتي بسبب ميولهم السياسية وانا اول الحاضرين.