انتخابات تركيا.. لماذا نهتم؟
الأحد, 28 مايو, 2023 - 09:54 مساءً

لم تحظ انتخابات في دولة بهذا الاهتمام والترقب مثلما كان حال الانتخابات في تركيا.
 
دعك من اهتمام الشعب التركي بها، فذلك خيارهم، وهم أدرى ببلدهم، ولكن الحديث هنا عن متابعة الشارع العربي، ناهيك عن الاهتمام الدولي.
 
ملايين العرب والمسلمين تابعوا هذه الانتخابات من داخل بلدانهم، وبالذات تلك التي تشهد الفوضى والحروب والنزاعات، بل ولن أكون مجافيا للحقيقة، أن جميع البلدان العربية والإسلامية تابعت هذه الانتخابات أولا بأول، منذ لحظتها الأولى.
 
والسؤال هنا ما الذي يجعل أناس ومواطنين عاديين داخل اليمن مثلا المثخن بالجراح يهتمون ذلك الاهتمام والمتابعة لانتخابات تركيا؟
 
ما الذي جعلهم يلهجون بالدعاء لأردوغان، وبالنجاة لتركيا، ويشعرون بذلك الحزن بعد نتيجة التصويت الأولى، ويشعرون بالسعادة الكبيرة بعد النجاح في الجولة الثانية؟ وكأنهم هم من يخوض تلك الانتخابات، ومعنيين بها.
 
ما المصلحة التي ستطال المواطن العربي من فوز أردوغان؟ وما الخسارة التي سيخسرها، في حال لم يحصد الرجل النجاح؟ وهو المواطن البعيد بأرضه، والغارق في همومه، ولا تنعكس عليه النتيجة بأي شكل من الأشكال، من قبيل المصلحة والمكاسب، أو الخسارة؟
 
تلك تساؤلات لا يستطيع أحد تقديم إجابة شافية أو دقيقة لها، لكنها في مجملها تعكس نزوع الشارع العربي للديمقراطية الحقيقية، وتعبر عن تطلعه للاستقرار والأمن، وسأمه من حالة الاقتتال والفوضى والعنف في بلده..
 
لذلك شكلت له تلك الانتخابات بارقة أمل كبيرة، ووجد ذاته فيها، خاصة أن الشعارات التي يرفعها أردوغان تجد صداها في جنباته، بما تتضمنه من إحساس بالواجب تجاه الشعب، ومن رفعة الذات والندية تجاه الغرب، وبما تحقق من منجزات يطمح الشارع العربي أن يحصل عليها من حكومات بلاده.
 
لا جدل أن الانتخابات في تركيا، هي النموذج الوحيد اليوم في المنطقة، التي إما تعج بالصراعات والحروب والفوضى والدم، أو تحكمها أنظمة عائلية تفرض على الشعوب نمطها الخاص، والفلسفة التي ترسمها، والمسار الذي تراه، ولذلك نظر الشارع العربي لهذه الانتخابات بترقب كبير، ورأى في خسارة أردوغان نقطة تحول مفصلية في مسيرة تركيا، ويشعر إزاء ذلك بالحسرة لدخول هذه الدولة نفس الدوامة التي يعيشها.
 
تركيا اليوم بهذه الحضور والاهتمام في الشارع العربي تؤكد مكانتها، والتأثير الذي تمتلكه، والصلات العميقة التي تربطها بالعرب والمسلمين، رغم كل عوامل التشويه التي طالت هذه العلاقة، ونالت منها، وصورتها بصورة أخرى مسيئة لكلا الطرفين، طوال أكثر من قرن، وما كان هذا ليحدث لولا الترميمات التي اضطلع بها رجب طيب أردوغان وحزبه منذ وصولهم للحكم في 2002م، والتي قدمت تركيا للعرب كعمق تاريخي واستراتيجي، وقدمت العرب لتركيا كمحبين ومتضامنين وحلفاء، وأن الجميع لديهم قضية مشتركة، وهموم واحدة، ومصير واحد.
 
فمن جانب نتحدث هنا عن الديمقراطية التي تجسدت في هذه الانتخابات، وأن الشعب التركي كان فيها صاحب الكلمة، وأن الأتراك أنفسهم هم الرابحون، أيا كانت النتيجة، فمرشح الحكومة منهم، ومرشح المعارضة أيضا منهم، وخاضوا الانتخابات فوق تراب بلدهم، ووفق برامج تنطلق من قضايا الشعب نفسه، ولعل النتيجة بحد ذاتها بالجولتين الأولى والثانية تؤكد مستوى الديمقراطية التركية، المغايرة لما عرفناه من ديمقراطية في بلداننا العربية، والتي تأتي بنتائج فوز مطلقة للمرشح الرئاسي الحاكم (99% في الغالب)، باستثناء ربما الانتخابات المصرية الوحيدة واليتيمة في 2012.
 
ومن جانب آخر يتعلق الأمر ببعد مستقبلي في نظر الكثير، فتركيا اليوم تقف في مساحة مهمة، تجاه التحالفات التي تتشكل في المنطقة، فهناك المشروع الإيراني الذي يتمدد، ويلتهم المنطقة، ويهددها، ووجود تركيا قوية يشكل ذلك جدار صد كبير، أمام التوغل أكثر، خاصة باتجاه المنطقة العربية، والتي تغيرت قناعات قادتها مؤخرا، تجاه تركيا، وباتت تتقبل بقائه، وترى فيها حليفا صادقا، بدلا من استعدائه، ولعل عملية المصالحة التي تمت بين دول الخليج ومصر مؤخرا مع أردوغان دليلا واضحا على هذا الشعور المنطلق من تبادل المصلحة، بدلا من العداوة التي تؤثر على الجميع.
 
وثمة أمراً أخر يتمثل بكون تركيا اليوم تقدم نموذجا فريدا ومميزا، فهي تنطلق في ظل قيادة أردوغان من مدرسة سياسية خاصة، تجمع بين قيم العلمانية الوسطية، المعبرة عن الحقوق والحريات للجميع، ومن نظرية دينية تحفظ للدين مكانته في تنظيم حياة الناس، وبقائه حاضرا في الحياة العامة، بعيدا عن التطرف والغلو، وعندما تتجول في المدن التركية تستطيع أن تدرك ذلك بوضوح، وهذا ما جعلها مزيجا بين الشرق المعروف بكونه متدين ومحافظ، وبين الغرب الذي يتيح الحريات المطلقة، بعيدا عن أي اعتبارات أخرى، للدين، وقيم العائلة.
 
تؤكد الانتخابات في تركيا واحدية المشاعر في الشارع العربي والإسلامي، وأن كل مؤامرات تفريقه وتمزيقه تفشل، وأن وجود نموذج ناجح في المنطقة يمكنه أن يبعث في هذا الشارع الأمل، ولملمة الصف من جديد، ويوحد جسد هذه الأمة المثخن بالجراح والتمزق، خصوصا مع الموقف الغربي المعادي لتجربة تركيا، وهو ما خلق اصطفافا عربيا وإسلاميا أكثر، وجاء بنتيجة مغايرة، ضاعفت الترقب لهذه الانتخابات.
 
هذه الانتخابات أيضا تمثل درسا حيا وملهما لأنصار النضال السلمي حول العالم، وفي المنطقة العربية والإسلامية تحديدا، في الصبر والمغالبة، والعمل في أوساط الجماهير، وجعل الإنسان محور الاهتمام، والابتعاد عن النظريات والشعارات المطاطية والمغلوطة، والإيمان بالشعوب وقضاياهم وحاجاتهم، والتمتع بسياسة النفس الطويل.
 
دروس كثيرة تعطيها الانتخابات التركية، ومبررات عديدة يمكن سردها للسؤال العريض لماذا نهتم، وفي النهاية فازت تركيا، وقدمت لنا درسا تاريخيا، ولا يسعنا إلا نهنئ الشعب التركي، بينما نبقى نحن في النفق المظلم الذي نعيشه، بانتظار انفراجا طال غيابه.
 

التعليقات