مر أهلنا في المحافظات الجنوبية عموماً وفي مدينة عدن بشكل خاص عقب ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م بتجارب قاسية واحتقانات سياسية واجتماعية متعددة، كانت نتاج لصراعات وحروب وأحقاد كامنة تحت الرماد بين رفقاء الثورة والسلاح، راح ضحيتها جل قادة الثورة وأحرارها.
صراعات غرست الحقد وألقت بذور الكره والضغينة في قلوبهم ولعبت العصبية القبلية والمناطقية والمصالح الشخصية الفردية والشللية القروية دوراً كبيراً في تعميق الجرح وتضخم أسباب الاختلاف. وما يجري في عدن اليوم ما هي إلا حلقة من حلقات ذلك الصراع الذي لم ينتهِ ولن ينتهِ قريباً، وتجسيداً لتلك الضغائن والشرور التي لا تزال تسكن الأنفس والقلوب.
ولشمال الوطن تجربة مشابهة مر بها عقب رحيل حكم الامامة وسيطرة ثوار 26 سبتمبر على مقاليد الأمور وبروز المطامع السياسية ومستبطناتها لرفقاء السلاح على السطح. أُشعلت بعدها فتيل الحرب في شوارع صنعاء، وأستمرت لسنوات ولم تهدأ وتغادر آثار تلك الحالة إلا بعد تولي الرئيس إبراهيم الحمدي مقاليد الحكم. ولكنها سرعات ما عادت بعد رحيله على هيئة تحالفات اختزلت في مناطق او كيانات وشخوص معينة.
لعل مَردَ ذلك، وبشكل كبير، إلى غياب الوعي والروح الوطنية عند بعض القيادات، حاملي الشعارات والأعلام المزيفة التي يعودون لاستهلاكها كما تستهلك الدابة شعيرها بعد تحقيق غايات الدفع المسبق وعودة الجماهير المخدوعة إلى مخدعها تسحب أقدامها وكأنها تسحب كل شوارع الدنيا ورائها حسرة وكمد.
ومشكلة الجماهير المخدوعة تكمن في عدم قراءة أحدث الماضي القريب وتآكل الذاكرة اليمنية وعدم الاتعاظ بمآسي الصراع والاقتتال، في سبعينات القرن الماضي حيث كان السفير الروسي يحكم الجنوب والسعودي يتحكم بالشمال وكان الروسي يُغلَّب حليفه بالقوة إذا ما نشب صراع بين أطراف المعادلة السياسي المتمثلة في أبين وشبوه من جهة والضالع ويافع وردفان من جهة أخرى! وفي المقابل كان السعودي يضخ الأموال لأصحاب الكروش الممتلئة بالعلف والعقول المفرغة من أبسط مبادئ الوطنية وحب الوطن في الشمال لتحقيق أهدافه والدفع بالطرف الموالي إلى قمة السلطة والمجد.
عملت أطراف الصراع في كلا الشطرين كأدوات لسياسة الخارج ومطامعه دون أدنى مراعاة لاحتياجات المواطن وصون الوطن وتحقيق أهدافه التي سكب في سبيلها أغلى ما يملك من جهدٍ ودماء.
ولعل أبرز ما برع فيه وأجاده أغلب ساسة اليمن هو التخابر والتعامل والبيع الرخيص للأجنبي، حيث كانت روسيا والسعودية قادة الشراء واليوم أيران والامارات قادة الرقص العاري المريع على دماء اليمنيين وأشلاءهم وعبر وكلاءهم الجدد النسخ المطورة للصنع القديم.
و إذا استمر السيناريو وفق ما هو قائم فلن تعود اليمن كما كانت حتى قبل الوحدة! سيتم تطبيق نظام أقاليم على هيئة سلطنات مشوهة، وفي ظل غياب قيادة جامعة وبسمارك يمني جديد يقوم بإعادة الدولة والوحدة ودولة العدل والقانون لكل اليمنين الحلم المفقود في منظورها الاعتيادي الصحيح لن تنتهي دوامة الصراع والحرب حتى يقضي الله بأمر من عنده.