عن أكذوبة اليمين واليسار وعجز الفكر السياسي
الأحد, 09 مارس, 2025 - 11:58 مساءً

اليمين واليسار من أكثر المصطلحات استخداما في عالم السياسة والأيديولوجيا، دون أن يسأل أحد نفسه كيف ظهر هذا التقسيم العبثي للأفكار والأيديولوجيات والسياسات التي من الصعب اختزالها جميعا في هذين التقسيمين، ويتم التعامل معها وكأنها حقائق مطلقة، لكن ظروف نشأتها تكشف أنها مجرد تقسيم عبثي وتعكس العجز الفكري لعلماء السياسة والمنظرين الأيديولوجيين.
 
لقد نشأت ثنائية اليمين واليسار في سياق تاريخي محدد، لكنها تحولت بمرور الزمن إلى تصنيف عام يفرض نفسه على كل نقاش سياسي، وكأنه قانون حتمي يحكم الفكر البشري.
 
تعود هذه الثنائية إلى عام 1789م، حين اجتمع نواب الجمعية الوطنية الفرنسية لمناقشة مستقبل الحكم بعد اندلاع الثورة الفرنسية، حينها جلس المحافظون، الذين يدافعون عن الملكية والنظام التقليدي، إلى يمين رئيس الجمعية، بينما جلس الإصلاحيون والثوريون، الذين يطالبون بالتغيير، إلى يساره.
 
هذا الترتيب لم يكن له أي أساس فكري أو فلسفي، بل كان مجرد صدفة مكانية داخل قاعة الاجتماعات، لكنها مع ذلك أصبحت حجر الأساس الذي بُنيت عليه مفاهيم سياسية كاملة.
 
وهنا يبرز السؤال المحوري: ماذا لو جلس كل فريق في الجهة الأخرى؟ هل كنا اليوم نصف المحافظين باليساريين والثوريين باليمينيين؟ لو حدث ذلك، هل كانت هذه الثنائية ستبقى بنفس المعاني التي نعرفها اليوم، أم كانت ستنقلب رأسا على عقب؟
 
هذه الفرضية تكشف هشاشة التصنيف، فهو لم ينشأ عن منهج فكري عميق، بل عن ترتيبات عشوائية داخل قاعة برلمانية، ثم تم تضخيمه ليصبح المعيار الأوحد لفهم السياسة.
 
لكن المشكلة لم تتوقف عند منشأ الفكرة، بل تفاقمت مع مرور الزمن عندما بدأ الناس يتعاملون مع هذه الثنائية وكأنها حقيقة ثابتة، رغم أن مضمونها تغير مرارا عبر التاريخ، فما كان يُعد يساريا في زمن معين، أصبح يُصنف كيميني في زمن آخر، والعكس صحيح.
 
ففي القرن التاسع عشر، كانت الليبرالية الاقتصادية التي تدعو إلى حرية السوق تُعد فكرة ثورية تقدمية، وبالتالي صُنفت كيسارية لأنها تحدت تدخل الدولة، لكن مع صعود الاشتراكية التي دعت إلى تدخل الدولة في الاقتصاد، انقلبت الموازين، وأصبحت الليبرالية تُعد توجها يمينيا.
 
أما الشيوعية، التي ظهرت كحركة مناهضة للنظام التقليدي وسعت إلى إحداث تغيير جذري في المجتمعات، فقد تحولت مع الزمن إلى أنظمة شمولية تمارس القمع وتحافظ على سلطتها بكل الوسائل، مما يجعلها أقرب إلى ما يُعرف بالمحافظة، أي النقيض المفترض لمبادئها الأولى.
 
وكذلك القومية، فقد استخدمها اليسار واليمين على حد سواء، تارة كحركة تحررية تدعو إلى استقلال الشعوب، وتارة كأداة سلطوية لترسيخ حكم مستبد، مما يثبت أنها لا تنتمي بطبيعتها لأي من التصنيفين.
 
ولكن الأزمة الكبرى ليست فقط في أن معاني اليمين واليسار غير ثابتة، بل في أن هناك أفكارا ومواقف لا تنتمي لأي من المعسكرين، ومع ذلك يحاول البعض تصنيفها بالقوة ضمن أحدهما.
 
لقد ظهرت عبر التاريخ أفكار سياسية واجتماعية لم تكن يمينية ولا يسارية، ولكن بدلا من الاعتراف بوجود مناطق رمادية، لجأ البعض إلى تحايل فكري مضحك عبر إضافة تصنيفات مثل "يمين الوسط" و"يسار الوسط"، وكأن السياسة لا يمكن أن تخرج عن هذا القالب المصطنع، وهذه ليست سوى محاولة بائسة للتمسك بثنائية لم تعد تعكس الواقع، وإصرار على تقسيم الفكر البشري إلى معسكرين حتى لو لم يكن هناك مبرر لذلك.
 
السياسة في جوهرها لا يمكن اختزالها في مواجهة بين "يمين" و"يسار"، بل هي ساحة معقدة تتداخل فيها المصالح والأفكار والتوجهات، وبالتالي لا يمكن اختزال العالم في خط مستقيم تتوزع عليه كل الأفكار السياسية، لأن الواقع مليء بالحالات التي لا تتناسب مع هذا التصنيف الساذج.
 
علما أن هناك حركات سياسية تمزج بين أفكار من الطرفين، وهناك سياسات تجمع بين الليبرالية الاقتصادية والتوجه الاجتماعي المحافظ، أو بين الاشتراكية والقومية، وهذا وحده كافٍ لإثبات أن الثنائية الكلاسيكية لم تعد كافية لتفسير السياسة الحديثة.
 
لكن لماذا لا يزال البعض متمسكا بهذه التصنيفات رغم تناقضاتها؟ السبب يعود إلى أن ثنائية اليمين واليسار تمنح الناس شعورا زائفا بالوضوح والفهم، فهي تبسط السياسة وتجعلها تبدو وكأنها معركة بين معسكرين، مما يسهل على العامة اتخاذ مواقف سريعة دون الحاجة إلى تحليل عميق.
 
كما أن هذه الثنائية تُستخدم كأداة دعائية من قبل النخب السياسية والإعلامية، لتقسيم الجماهير وتوجيههم نحو تصورات مسبقة، دون السماح لهم بالتفكير خارج هذا الإطار.
 
فمتى سيحين الوقت لإعادة النظر في هذه الثنائية المتهاوية، وطرح بدائل فكرية أكثر واقعية تعكس حقيقة السياسة كما هي، لا كما يريد لها البعض أن تكون؟
 
إنه لمن العبث أن يستمر العالم في استخدام تصنيفات وُلدت بالصدفة قبل أكثر من قرنين، لمجرد أنها أصبحت مألوفة.
 
لقد آن الأوان للخروج من هذا القيد الفكري، والبحث عن رؤى جديدة تستوعب تعقيد الواقع بدلا من اختزاله في مفاهيم تجاوزها الزمن.
 

التعليقات